فى مقال الأسبوع قبل الماضى حاولت الإجابة عن سؤال: ما العمل؟ وكانت إجابتى هى أن الحل الوحيد لتغيير معادلة الحكم والسياسة فى مصر هى تقوية الأحزاب، حتى يحوز من يريدون هذا التغيير بعض أدواته، إلا أن كثيرين من القراء – فضلا عن الأصدقاء – اعترضوا أو تحفظوا على هذه الإجابة، وكانت أسبابهم هى أن الفكرة صحيحة نظريا، ولكنها مستحيلة عمليا، بسبب الضغوط السلطوية الشرسة على الحركة الحزبية، والتى لا يبدو فى الأفق أى احتمال للتخفيف منها، كما اعترض البعض على تركيز الحديث على مسئولية الأحزاب ذاتها عن كثير من أوجه قصورها.
ردا على هذه الاعتراضات والتحفظات، ولغرض الفهم المتوازن، نستعرض فى السطور التالية تطبيقات السلطوية ــ عبر عهود نظام يوليو المتتابعة ــ فى محاصرة وإجهاض الحركة السياسية للمجتمع أو نخبته، إذا بدا أنها تخرج من قبضتها، فالتشخيص نصف العلاج كما يقال، والمؤمن فى السياسة يجب ألا يلدغ من جحر مرتين، كالمؤمن فى الدين سواء بسواء، وقد سبق لنا تناول هذه التطبيقات فى أكثر من مناسبة، وأكثر من مكان.
جمال عبدالناصر هو واضع تراث سحق أى تنظيم مستقل عن نظامه فى المجتمع، أما السادات الذى ألغى نظام الحزب الواحد فلم يكن يوما مخلصا للتعددية الحزبية التى دشنها هو بنفسه، والفارق الرئيسى بينهما، أن ناصر كان صريحا فى إيمانه بالتنظيم الواحد شكلا وموضوعا، فى حين كان السادات مؤمنا بالتنظيم الواحد موضوعا، ومفتعلا للتعددية الحزبية شكلا.
وقد انتقل هذا التراث بحذافيره إلى حسنى مبارك، الذى قال فى تصريح شهير له: «ارجعوا إلى تاريخ مصر قبل الثورة،
وستعرفون أنه لكى تبقى مصر مستقرة لابد أن يكون فيها حزب واحد قوى»، وهو ما طبق أيضا بتوسع إثره تقديم الانتخابات الرئاسية على الانتخابات البرلمانية فى عام 2014.
كيف طبّق كل رئيس استراتيجية تجريد المجتمع من التنظيمات المستقلة؟
عبدالناصر استوعب من خلال تنظيمه الواحد – وبنص القانون.. كل هذه التنظيمات.. نقابات عمالية ونقابات مهنية واتحادات طلابية، واتحادات تعاونية زراعية، وغرف تجارية، وصناعية، وجمعيات مجتمع مدنى، بما فى ذلك الجمعيات العلمية. فكلها فروع للاتحاد الاشتراكى، وجميع أعضائها أعضاء أيضا فى ذلك الاتحاد الاشتراكى.
هذا كله معروف، لكن ربما لا يكون معروفا بنفس الدرجة من الوضوح أنه لم يكن يقبل أن يقوى الاتحاد الاشتراكى نفسه إلى حد أن يصبح تنظيما حقيقيا، فكان هو رئيسه الدائم بالمبايعة، وكان هو الذى يعين أمينه العام، وأمانته العامة، بل إنه وبعد أن تعهد فى بيان 30 مارس (1968) بإعادة بنائه من القاعدة إلى القمة بالانتخاب، لم يقبل أن تتشكل لجنته التنفيذية العليا إلا كما يريدها 0
و من المعروف لمن عاصروا تلك الفترة أن عبدالناصر انزعج من تجربة منظمة الشباب التى أقامها هو نفسه فى اطار الاتحاد الاشتراكى، عندما ظهر أن الشباب المسيس من أعضاء المنظمة أخذوا الأمر بجدية وحماس ومثالية، وبدا أنهم سيكونون كتلة غير مروضة، فأمر بحلها وإعادة تكوينها، لإفراز قيادة أقدر على تحجيم هؤلاء الشباب، ثم أهملها كلية، واستحدث تمثيلا للشباب فى الوحدات الأساسية للاتحاد الاشتراكى نفسه بنسبة 2/10، لكى يذوب صوت الشباب وسط «العواجيز» الأكثر حكمة.
كذلك حرص عبدالناصر طوال حكمه على أن تكون نسبة المنتخبين فى مجالس إدارات شركات القطاع العام، والهيئات العامة أقل كثيرا من نسبة المعينين من قبل السلطة التنفيذية !.
وما إن أطلق السادات تجربة المنابر، ثم الأحزاب حتى انهال النظام بالطعنات على أى حزب يحتمل أن يكون جادا، وفى البداية تصور الرئيس أن الحزب الذى يخشى جانبه هو حزب التجمع اليسارى، فاشتعلت حملات التشويه الصحفية ضده على الفور.
ثم أصدر السادات قرارات بحل مجلس الشعب مرتين لمجرد التخلص من بضع وعشرة أعضاء كانوا مستقلين نسبيا منهم الدكتور محمود القاضى والمستشار ممتاز نصار، ثم أطاح بصهره سيد مرعى من رئاسة المجلس لأنه كان يخجل من منع النواب المستقلين أو الأقوياء من الحديث تحت القبة، بسبب من قوة شخصيته ومن علاقاته القديمة بهم، وجاء بالدكتور صوفى أبوطالب من جامعة القاهرة إلى رئاسة المجلس، وهو الرجل الذى كان مطواعا إلى أقصى الحدود، ولم تكن له سابقة خبرة برلمانية.
إلى جانب ذلك لجأ السادات إلى استخدام أغلبيته الآلية فى مجلس الشعب لإسقاط عضوية كل نائب يجرؤ على انتقاده.
بعد ذلك وجه السادات مدفعيته الثقيلة إلى حزب الوفد الجديد الذى أعيد تشكيله بزعامة فؤاد سراج الدين، حتى قرر حله نهائيا فى استفتاء من استفتاءته الشهيرة، ثم اعتقل سراج الدين نفسه ضمن حملة اعتقالات سبتمبر 1981 التى اغتيل الرئيس على أثرها.
وعندما أراد السادات أن يعوض (من حيث الشكل) ضرب حزبى التجمع والوفد الجديد، بتشجيع تكوين حزب العمل برئاسة إبراهيم شكرى حفاظا على الديكور التعددى، أخذ يتلاعب بقوانين الانتخابات، فضلا عن التزوير، ثم وضع شرط الحصول على نسبة الـ 8%الشهيرة من الأصوات على مستوى الجمهورية كحد أدنى لتمثيل الحزب فى البرلمان، ثم رفعها إلى 10%، على أن تتكفل وزارة داخليته بألا يحصل الحزب على هذه النسبة.
وعلى الرغم من أن حسنى مبارك استهل حكمه بلقاء أو اثنين مع زعماء الأحزاب، إلا أنه سرعان ما تراجع، وقرر مواصلة السير على درب نظام يوليو، فمن أول انتخابات برلمانية جرت فى عهده، أصدر رئيس وزرائه فؤاد محيى الدين أمرا صريحا إلى وزير الداخلية حسن أبو باشا بأن تكون النتائج هى فوز الحزب الوطنى (حزب الرئيس) بأكثر من 95 % من المقاعد، وكان هذا الأمر ردا على توقع أبو باشا حصول الحزب على حوالى 75% من المقاعد إذا أجريت الانتخابات دون تزوير، وقد حدث كل ذلك فى اجتماع لمجلس الوزراء كما كتب أبو باشا نفسه فى مذكراته.
وليت الأمر اقتصر على ذلك، فالسلطة هى من كانت تدبر الانقلابات والانشقاقات داخل الأحزاب الواعدة منها، وهى ظاهرة لم ينج منها الوفد نفسه، فما بالنا بالأحزاب الأصغر.
وجاءت ثورة يناير لتثبت أن بالإمكان قيام حياة حزبية قابلة للنمو، ولندع جانبا فوز الاخوان المسلمين والسلفيين بالاغلبية النسبية لأن هذا الفوز كان مؤقتا بطبيعة الحال بدليل ندم أغلب من انتخبوهم على ذلك سريعا، ولأن الأحزاب المدنية أبلت بلاء حسنا، كان ولا يزال قابلا للبناء عليه، فقد فاز حزب الوفد بالمرتبة الثالثة، يليه الحزب الديمقراطى الاجتماعى، فحزب المصريين الأحرار، فضلا عن المستقلين، ولا يخالج المحللين أى شك فى أنه لو كانت أجريت انتخابات برلمانية بعد حل برلمان عام 2012 بحكم قضائى، لكانت الاحزاب المدنية فازت بالاغلبية، ثم جاءت 30 يونيو: ولا ينكر أحد أن جبهة الانقاذ الوطنى التى تألفت من ألحزاب المدنية، ومن الشخصيات العامة المهمة هى من قاد بفاعلية الرأى العام المعارض لحكم الاخوان، وإعلانهم الدستورى، وأن هذه القيادة
وتفاعل الرأى العام معها هو ما أخصب التربة السياسية فى مصر لحركة تمرد، لكن ماذا كان مصير جبهة الانقاذ.
قال لى أحد أقطابها، إنهم بعد 3 يوليو الذى عزل فيه الرئيس الاخوانى فهموا أو أفهموا أن الحقبة الجديدة ستكون حقبة مشاركة حقيقية يحتفظ فيها للجيش بدوره السياسى من خلال مشاركته الحاسمة فى قرارات الامن القومى، والسياسة الخارجية المتعلقة بهذا الامن القومى، وترك بقية السياسات للمدنيين، ولذلك فقد قبلوا المشاركة فى الحكومة، ولجنة الدستور، وأضاف أنه كان واجبا إجراء الانتخابات البرلمانية فى زخم 30 يونيو، وإذ ذاك كانت أحزاب جبهة الإنقاذ ستحصل على الأغلبية، وبذلك تستأنف الحياة الحزبية الصحيحة فى مصر.
لكن الذى حدث شىء آخر، فقد أخرج جميع الوزراء السياسيين من الحكومة، بمن فى ذلك رئيسها نفسه، ثم قدمت الانتخابات الرئاسية على البرلمانية، وبدأت حملات التشكيك فى السياسة والسياسيين، والاحزاب، ثم حملات التخوين لكل رأى مختلف ولا نقول معارض، لينسحب أو يقصى جميع المدنيين من الحياة السياسية، حتى من قياديى 30 يونيو نفسها.
قلنا إن التشخيص نصف العلاج، ونضيف الآن أن أولى خطوات هذا العلاج هى تقوية مناعة الأحزاب ضد الانشقاقات، وضد إغراءات السلطوية لضرب بعضها بالبعض الآخر، جريا وراء وعد لا يلبث أن يخلف، أو مكسب سرعان ما يضيع.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع