وهذه تفاصيل مناقشات جرت بينى وبين أطراف الصراع المختلفة، فى الفترة ما بين الإعلان الدستورى الإخوانى فى نوفمبر 2012، وبين 30 يونيو 2013، وكلها ــ كما سيتضح توًا ــ تظهر غياب مفهوم الدولة الحديثة عن جماعة الإخوان المسلمين، وحلفائها، أو عدم الإيمان بهذا المفهوم، كما تظهر قدرا كبيرا من الغفلة، والقراءة بالتمنى أو القراءة الخاطئة للمؤشرات، وربما الغرور البالغ حد تصور القدرة على مواجهة مؤسسات القوة والأمن فى مصر.
فى الأسبوع الأول من ديسمبر، أى بعد مرور أيام على احتشاد جماهير الإخوان وحلفائهم أمام القصر الرئاسى، بدعوة من الرئيس نفسه، ليهدد بهم معارضى إعلانه الدستورى الديكتاتورى، تجمع هؤلاء المعارضون أمام القصر للاحتجاج، وربما الاعتصام حتى إلغاء هذا الإعلان، وسرعان ما انقض عليهم ناشطو الجماعة وحلفاؤهم، وقد استجلبوا على عجل بالآلاف، وأنهوا الاعتصام بالقوة.
فى صباح الخامس من ديسمبر، وكان أنصار الإخوان قد سيطروا تماما على الموقف، وقرروا هم الاعتصام لحماية الرئيس، أو لحماية الشرعية كما يقولون، قبل أن تطلب منهم قيادتهم فض الاعتصام بعد التفاهم مع مؤسسات بعينها فى الدولة فى ذلك الصباح تناقشت مع عدد منهم، وقد أوردت طرفا من هذه المناقشات فى كتابى الصادر فى إبريل 2013 بعنوان «الوحى الأمريكى.. قصة الارتباط البناء بين أمريكا والإخوان».
كانت قد تناثرت عدة صور فوتوغرافية للرئيس المعزول «محمد مرسى» على رصيف الشارع، فإذا بمحدثى يقطع الحديث، ويأمر أتباعه ــ باعتزاز وابتهاج واضحين ــ بجمع صور «البطل» من فوق الأرض احتراما لها وله، فسألته: أية بطولة تقصدها للرئيس؟ فقال إنه قهر العلمانيين والليبراليين، فعدت أسأل: هل هذه أمنيتك الشخصية، أم هذه هى خطة الجماعة التى أبلغتم بها؟ ولم أتلق جوابا، ولكنه اتجه بالحديث ناحية أخرى ليسألنى: هل يرضيك أن يجتمع زعماء جبهة الانقاذ بالسفيرة الأمريكية لمدة 8 ساعات فى مقر حزب الوفد؟ وهنا أكتفى بردى عليه، لأن بقية الحوار فى هذه النقطة تخرج عن السياق الأصلى لهذا المقال: إذ قلت له، ولماذا اجتمع كل زعماء الاخوان، قبل انتخابات الرئاسة التى جاءت بمرسى رئيسا، وقبل هذه الأزمة، وخلالها بكل مسئول أمريكى زار القاهرة، بالاضافة إلى السفيرة نفسها؟! وبالطبع لم يجبنى أيضا مباشرة، فغادرته متجها إلى بوابة نادى هليوبوليس، فإذا به يصرخ قائلا: طبعا أنت من أعضاء هذا النادى.. أفجر نادى فى مصر، نادى العلمانيين.
فى طريقى التقيت بأحد زعماء حزب سلفى من حلفاء الاخوان، وكنت أعرفه من أيام الدراسة الثانوية، وبعد الترحيب المتبادل سألته: لماذا جئتم لتفريق المعتصمين بالقوة؟ فأجابنى جئنا لنحمى الرئيس والشرعية ؟ فقلت: ألا تعلم أن حماية الشرعية هى مهمة المؤسسات الرسمية فى الدولة، وأنكم الآن تغتصبون هذا الاختصاص، وتصرون على مواصلة خطيئة الرئيس بدعوته لأنصاره فقط للاحتشاد لتأييد إعلانه الدستورى، ولتهديد المعارضين وبقية مؤسسات الدولة بهم؟! وكان رده على أن هذه المؤسسات تقاعست، أو يبدو أنها تتقاعس عن حماية الرئيس والشرعية.. فعدت أسأله وكيف سيمكنكم مواصلة حكم دولة لا تخضع مؤسساتها لأوامركم، أو لنقل إنها ترفض سياستكم؟ هل ستحاربون هذه المؤسسات أيضا؟! وماذا ستكون النتيجة؟ أليس الأجدى فى هذه الحالة أن تفهموا الدرس، وتتراجعوا عدة خطوات لنزع الفتيل، ثم تطرحوا أو تقبلوا مبادرة جديدة كلية للوفاق الوطنى، بدلا من اغتصاب اختصاص السلطات الرسمية لفرض رؤيتكم فى حرب شوارع؟ حتى وإن أدى الأمر إلى استقالة الرئيس، لأن ذلك أحفظ للبلاد وللديمقراطية، وأكرم للرجل، وللجماعة.
ولتأكيد أو لتأصيل هذه المعانى ذكرت له عدة أمثلة منها، خسارة حزب الوفد لكثير من شعبيته، فضلا عن سقوط حكومته عام 1937 بسبب انجرافه لتشكيل ميليشيا القمصان الخضر لمواجهة تحرشات ميليشيات حزب مصر الفتاة وفرق كشافة الاخوان، خارج القانون، وبعيدا عن مؤسسات الدولة، إذ كيف يعقل أن يقود الحزب الحاكم المنتخب حرب شوارع؟!
ومن الأمثلة التى ضربتها أيضا رضوخ الحكومة اليمينية فى إسرائيل لضغوط الأحزاب والرأى العام والمجتمع الدولى، لمنع المستوطنين من «أخذ القانون والسلاح بأيديهم» للاعتداء على الفلسطينيين، وذكرت له أيضا القصة المشهورة فى تاريخ اسرائيل فى بداية تأسيسها، وهى قصة أو حادثة السفينة ألتالينا التى كانت تحمل أسلحة تعاقدت عليها منظمة الأرجون بقيادة مناحيم بيجين، قبل اعلان الدولة، ولكنها وصلت إلى ميناء حيفا بعد ذلك الاعلان، إذ رفض رئيس الوزراء ديفيد بن جوريون رفضا باتا أن تحصل «الأرجون» على هذه الأسلحة، وطلب تسليمها إلى الجيش الرسمى، حتى لا يكون فى اسرائيل جيش خارج عن الشرعية، أو بندقية تستخدم دون أمر من الحكومة، حتى وإن استخدمت ضد «العدو الفلسطينى أو العربى»، وعندما رفض بيجين أصدر بن جوريون أمرا حاسما بإغراق السفينة، بما عليها، ومن عليها، وهو ما حدث فعلا، ليتدارك بيجين الموقف، ويأمر رجاله على البر بوقف المقاومة، والاستسلام للجيش، وذلك حتى لا تقع حرب أهلية، ويقتل يهودى يهوديا، رغم أن بعض أنصاره كانوا قد قتلوا بالفعل، وكاد هو نفسه يقتل، لولا أنه قفز إلى مياه البحر.
أتدرون ماذا كان رد زميلى القديم، السلفى وحليف الإخوان على تلك التساؤلات، وهذه الأمثلة: لم يكن الرد سوى عبارة واحدة: يفعل الله ما يريد.
هنا يظهر جليا ما قلناه فى بداية هذه السطور من أن مفهوم الدولة الحديثة الحاملة وحدها لمبدأ الشرعية، والمحتكرة وحدها للعنف والسلاح، غائب تماما ونهائيا عن فكر الاخوان وحلفائهم، أو أنهم لا يؤمنون به، إما لأن لديهم مرجعية أخرى، ليست هى مرجعية الدولة الوطنية الحديثة، وإما لغلبة الثقافة القبلية والريفية السابقة على عصر الحداثة على تكوينهم النفسى والعقلى، والأرجح أنهما السببان معا.
نأتى الآن قراءتهم الخاطئة أو تفسيرهم بالتمنى للمؤشرات، ونبدأ بالسؤال التالى: ألم يكن تقاعس المؤسسات الرسمية عن الدفاع عن القصر الرئاسى ضد محاولات اقتحامه، واضطرار الرئيس للهروب من أبوابه الخلفية فيما تلا ذلك من أحداث مؤشرا كافيا على أن هذه المؤسسات خرجت من أيديهم، أو خرجت عليهم، مع ملاحظة أننى هنا لا أبرر محاولات المتظاهرين اقتحام قصر الرئاسة، ولا أعتبرها عملا مشروعا، إلا أنى أعود وأذكر بأن من بدأ الاحتكام إلى «الشارع» هو الرئيس الاخوانى نفسه، بحشد أنصاره بعد صلاة عصر الجمعة التالى لاعلانه الدستورى ليهدد الجميع بهم، والبادى أظلم كما نعلم ونقر جميعا.
زيادة على ذلك كنت قد قابلت فى مناسبة اجتماعية حافلة فى أواخر شهر يناير التالى عددا كبيرا من معارضى الاخوان المدنيين، من أعضاء جبهة الانقاذ وغيرهم، وبالطبع لم يكن هناك حديث سوى عن الأزمة السياسية المحتدمة فى البلاد حول سلطة الاخوان، وكان الجميع يتحدثون، بمعلومات واثقة عن اقتراب النهاية بسقوط هذه السلطة، فقال أحدهم إن تقديره للموقف بناء على معلوماته أنه لو كان اعتصام المعارضة الذى نظم فى أوائل يناير استمر أكثر من أسبوعين، لكان كل شىء انتهى، وقال آخر إن الدول الاقليمية المؤثرة مستعدة لمساندة أى تحرك لاسقاط الاخوان إلى آخر المدى، فهل يعقل أن الجميع كانوا يعرفون ذلك، ويتداولونه فى كل مناسبة، بينما الاخوان «سادرون فى أوهامهم اللذيذة» بأن كل شىء على مايرام، وأنهم سوف يستطيعون قلب المائدة بصفقة مع الدولة العميقة؟ وما هو تفسير ذلك سوى الغفلة، والقراءة المغرضة للمؤشرات، أو التفكير بالتمنى.
على أية حال، وسواء كان التفسير الشامل لحسابات الجماعة هو غيبة مفهوم الدولة، أو عدم الإيمان به، أو الغفلة ونقص الكفاية، فإن الخلاصة أو العبرة هى أن أحدا لا يستطيع أن يصنع المستقبل بأدوات وأساليب الماضى، وهذا يسرى على الجميع، لأنه يبدو أن كل الأطراف فى مصر أسيرة.. كل لماضيه.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع