الرفض المطلق مثل التأييد المطلق، كلاهما غير علمى، وغير عملى، فى كثير من القضايا والمواقف السياسية، إذ يجب أن يوجد بين هذين الحدين المتناقضين، والمتباعدين العديد من درجات التأييد والرفض، منها مثلا تأييد المبدأ مع التحفظ على بعض التفاصيل، أو التأييد المشروط، أو طلب المزيد من المعلومات، أو الدعوة إلى تعديل هنا أو هناك، أو التنبيه إلى خطأ أو خطر فى هذه النقطة أو تلك.
لذا لا نستطيع أن نفهم أو نسوغ بعض ردود الفعل، على مجريات زيارة الأمير محمد بن سلمان ولى العهد السعودى الأخيرة لمصر، وعلى نتائجها المعلنة على الأقل، فلم تكن، ولن تكون هذه آخر مرة يكسر فيها البروتكول فى مصر، أو غيرها، لإبداء حفاوة خاصة بضيف ذى وزن خاص فى ظرف خاص، وقد فعلها الأمريكيون أنفسهم كثيرا مع زوارهم السعوديين.
أما فى مصر، فقد كسر الرئيس جمال عبدالناصر البروتكول عندما وقف على رصيف ميناء الاسكندرية فى استقبال رئيس الوزراء السوفيتى نيكيتا خروتشوف عام 1964، عندما جاء للمشاركة فى احتفالات تحويل مجرى النيل تنفيذا لمشروع السد العالى، وقد كتب الأستاذ محمد حسنين هيكل الذى صحب خروتشوف فى رحلته البحرية من أوديسا حتى الاسكندرية أن الضيف السوفيتى كان قلقا من أن لايكون الرئيس عبدالناصر فى استقباله بحكم أنه ليس رئيس دولة.
كذلك لا يستساغ القول بأن مصر تنازلت عن ألف كيلو متر من أرضها لحساب مشروع نيوم الذى يتبناه ولى العهد السعودى، فالمشاركة لا تعنى التنازل، كما أن الربط بين اتفاقية تسليم (أو إعادة) جزيرتى تيران وصنافير إلى السيادة السعودية للإيحاء بوجود سياسة مصرية مطردة للتفريط فى الأرض أو السيادة ينطوى على تعسف مؤكد، حتى وإن كانت هناك تحفظات محقة على عدم إعلان الاتفاق الجديد من القاهرة، اكتفاء بالاعلان السعودى، وعلى عدم إتاحة جميع التفاصيل أمام الرأى العام، كما كانت هناك تحفظات محقة على مباغتة الاعلان عن اتفاقية تيران وصنافير، وكذلك على عدم إتاحة الوثائق للمحاكم والرأى العام.
ومع ذلك فهل تبرر هذه التحفظات تلك الحساسية المفرطة لدى البعض منا فى مصر ضد كل خطوة كبيرة أو صغيرة فى اتجاه تعزيز التحالف السياسى، والتعاون الاقتصادى مع المملكة العربية السعودية؟! أليست الدولتان الآن هما قاطرة النظام الاقليمى العربى المصاب بشروخ وتصدعات لا حصر لها؟ وألم يكن التعاون الاقتصادى الشامل بين الدول العربية.. وسيظل هو غاية المراد لكل أحد منا؟
قبل أن ننتقل إلى ما يثار حول علاقة إسرائيل المحتملة بالمشروع، وعلاقة كل ذلك بالقضية الفلسطينية، وبمستقبل الأمن القومى العربى، نود التوقف قليلا عند ظاهرة الأمير محمد بن سلمان نفسه، فى ضوء ما قلناه فى السطر الأول من هذا المقال من أن الرفض المطلق مثل التأييد المطلق كلاهما غير علمى، وغير عملى.
بداية نستبعد من اهتمامنا أولئك المتشنجين دائما ضد كل ما يأتى من السعودية، بسبب العقد النفسية القومى منها والدينى (والاشارة هنا تغنى اللبيب عن التفاصيل)، وفى هذه الحالة سوف نجد أن عملية التصحيح، وخطط التحديث التى يقودها الأمير تستحق الترحيب، كما تستحق كل تمنياتنا بنجاحها، فمن ينكر أن السعودية كانت تحتاج منذ سنوات طويلة إلى الانعتاق من أسر التزمت الدينى، بكل أشكاله من الوصاية على الضمائر والمعتقدات، إلى رفض الآخر الدينى والمذهبى، إلى التمييز ضد النساء، إلى تصدير الفكر الجهادى، وتمويل منظماته، ورعاية الاتجاهات المتشددة فى عموم العالم الاسلامى، ومنه إلى الجاليات المسلمة فى الدول غير الإسلامية..؟
كذلك هل هناك من ينكر أن النظام السياسى السعودى كان منذ سنوات طويلة فى حاجة ماسة إلى إرساء خط أكثر وضوحا، وأكثر استقرارا لوراثة العرش، بعد أن تعاقب على المملكة أربعة ملوك، كان كل واحد منهم فوق السبعين أو الثمانين من العمر فى لحظة توليه السلطة؟ ولم يكن ذلك إلا بسبب اعتماد الخط الأفقى فى وراثة العرش بين أبناء الملك المؤسس.. وبصراحة أكثر فقد كانت هذه الفكرة تداعب الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، ورددت تقارير غربية أنها راودت كل من الأميرين سلطان، ونايف قبل رحيلهما.. وقد كانا يسبقان الملك الحالى سلمان فى ترتيب ولاية العرش، ولذا فحين يأتى الملك سلمان، والأمير محمد ويستطيعان تنفيذها، فهذا فى رأى الكثيرين يعد إصلاحا ثوريا فى نظام الحكم السعودى، وهو تطور يحفظ استقرار المملكة، ومن ثم يحقق مصلحة حيوية للنظام العربى، وللعالم الاسلامى، مثلما يحقق مصلحة مؤكدة للأسرة السعودية نفسها.
مرة أخرى، وطبقا للإقرار بعدم علمية وعملية موقف الرفض المطلق أو موقف التأييد المطلق، فإننا نعتقد أنه ليس من حق المعترضين على الأداء السعودى فى اليمن، أو فى لبنان، أو المعترضين على الانفتاح على فكرة التحالف السعودى مع إسرائيل ــ ونحن منهم ــ أن يسحبوا هذه المعارضة على إصلاحات بن سلمان السياسية، وعلى خططه التحديثية فى سائر المجالات.
ها نحن نصل إلى القضية الفلسطينية، وإلى ملف العلاقات السعودية الإسرائيلية، وإلى ما يسمى بصفقة القرن.
تقول التقارير المنشورة حول لقاء ولى العهد السعودى بالصحفيين المصريين مساء الاثنين الماضى، إنه فضل عدم التطرق بالتفاصيل إلى مشروع التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، وأن بعض ما قاله فى هذا السياق ليس للنشر، وإن كان قد أكد الالتزام بمبدأ إقامة الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس، مما يعنى أنه يفضل انتظار نتائج لقائه الوشيك مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.. المبشر الأول بصفقة القرن، وصاحب امتياز إعلانها على ما يبدو، لكن ذلك يعنى أيضا أنه لا تزال هناك ثقوب سوداء تنتظر إضاءة عتماتها.
ولكى لا نترك عقولنا نهبا للتخمين، فإن ما نشر منسوبا إلى الدكتور صائب عريقات المسئول عن ملف المفاوضات فى منظمة التحرير الفلسطينية كعرض رسمى لمشروع ترامب على المجلس المركزى الفلسطينى فى يناير الماضى.. لا يتطرق من قريب أو بعيد إلى فكرة الوطن الفلسطينى البديل فى سيناء، ومن ثم فلا علاقة لمشروع نيوم بهذه الفكرة، وهذا هو الخبر السعيد، لكن صفقة ترامب كما عرضها عريقات تتضمن بنودا شديدة الاجحاف بحق الفلسطينيين، يمكن للقراء مراجعتها من مصادرها.
كما نعلم فإن المجلس المركزى الفلسطينى رفض هذا المشروع، وأرفق رئيس السلطة هذا الرفض بتصريح قال فيه إنه لن يختم حياته بخيانة وطنية.
أما ما نود إضافته على هذا التصريح فهو الملاحظات التالية:
أولا – الرفض الرسمى والشعبى فى مصر لفكرة تبادل أراض مع إسرائيل كان هو العامل الحاسم الذى منع ترامب من تبنى هذه الفكرة الإسرائيلية المنبع فى مشروعه، وكان لجميع الأطراف عبرة من الموقف الشعبى من اتفاقية تيران وصنافير.
ثانيا – ليس معنى ذلك أن إسرائيل قد تخلت نهائيا عن الفكرة، ولكن يجب أن نثق فى أنفسنا، ونؤمن بأن إسرائيل –رغم قوتها المعترف بها – لا تستطيع أن تفرض كل ما تريد، فهى لم تستطع من قبل تنفيذ خطة كونتينج بتفريغ الجليل من السكان العرب الفلسطينيين، كما لم تستطع تنفيذ مشروع شامير للترانسفير، أى تهجير سكان الضفة الغربية إلى الأردن.
ثالثا – يعنى ذلك أن لا تندفع الاطراف العربية إلى تقديم تنازلات مجانية لإسرائيل بالضغط على الفلسطينيين، خصوصا وأن تجربة التنازل لأحزاب اليمين الإسرائيلية النهمة للتوسع لم تؤد إلا إلى تقوية هذا اليمين، وهذا درس قديم منذ أيام الرئيس المصرى الراحل أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلى الراحل أيضا مناحم بيجين، فقد كان السادات فى عام 1979 يراهن على أن «يغور» بيجين فى الانتخابات التالية، كما سمعت منه شخصيا فى منزله الريفى، ليأتى حزب العمل فيسهل حل القضية الفلسطينية، ولكن بيجين لم «يغر»، بل أعيد انتخابه، وخلفه شامير مكافأة لهما على انتزاع التنازلات من العرب، ثم اطردت هيمنة هذه الاحزاب، وكان الذى «غار» هو اسحق رابين زعيم حزب العمل بالاغتيال، وايهود باراك بخسارة الانتخابات، كذلك كان «كارتر» صانع السلام فى كامب ديفيد أيضا هو الذى غار، وجاء ريجان المتشدد فى مناصرة إسرائيل رئيسا للولايات المتحدة خلفا له.
رابعا ــ على الرغم من رفض الكثير من سياسات إيران وتركيا وتدخلاتهما فى الدول العربية، فإنى لا أستطيع استيعاب حديث ولى العهد السعودى عن محور للشر يضم هاتين الدولتين الأصيلتين فى المنطقة، وبما يعنى بمفهوم المخالفة وضع إسرائيل ضمن محور الخير، مع أنها لا تبدى أى استعداد جدى للاندماج السلمى فى المنطقة دون توسع ولا هيمنة إقليمية معززة بتشدد إيديولوجى عنصرى، وأسلحة دمار شامل..
مقتضى هذه الملاحظات أن دعم صمود الفلسطينيين فى أرضهم قد يحسن الموقف بأكثر مما يظن الكثيرون.
نقلًا عن الشروق القاهرية