أما وقد اتفقت غالبية الكتابات المحترفة، وكذلك اتفقت غالبية المتداخلين والمعقبين على فشل تجارب الحكم الوطنى فى عموم المنطقة العربية، قبل مرحلة الضباط الوطنيين، وفى أثناء هذه المرحلة، وبسببها، مع اختلاف فى تحديد الأسباب والمسئوليات، واختلاف آخر فى تقدير معدلات أو نسب الفشل هنا وهناك، وفى هذه الحقبة أو تلك، يصبح السؤال المترتب على الإقرار بهذه الحقيقة هو: ما العمل؟
من المسلم به أنه لا توجد إجابة واحدة، جاهزة ونهائية، ولكن إذا حاولنا أن نستخرج من الإجابات المطروحة من القوى والتيارات السياسية، أو من الشخصيات العامة، أو من مراكز البحث والتفكير معادلة محددة تشخص الحالة، وتقترح خطوطا عامرة للعمل الإيجابى من أجل تجاوز هذه المعضلة التاريخية، فإن هذه المعادلة هى: الذين يريدون التغيير فى عموم المنطقة لا يملكون أدواته، والذين يملكون الأدوات لا يريدون التغيير، بل ويقاومونه.
فهل إلى خروج من سبيل؟!
يمكن أن نكتفى بالإحالة إلى حركة التاريخ، والرهان على أن كل نظام يخلق نقيضه من داخله، وفى داخل المجتمع، وعلى أن الجمود الناتج عن تساوى قوة الفرض مع قوة الرفض يؤدى إلى السقوط من التاريخ وحركته، بحيث يخسر الجميع فى نهاية المطاف، ويخلون مكانهم للجديد المحتم.
ويمكن نظريا أن نراهن على إدراك من يريدون التغيير ــ أو بعضهم ــ أهمية امتلاك أدواته، ووسائل الحصول على هذه الأدوات، كما يمكن الرهان على إدراك من يمتلكون الأدوات ولا يريدون التغيير، أو إدراك بعضهم أهمية الاستجابة للاستحقاق التاريخى، المسمى هنا بالتغيير، الذى تفرضه حقيقة أن تجارب وصيغ الحكم الوطنى التى نكررها الآن بحذافيرها قد أخفقت فى ظل ظروف دولية وإقليمية وداخلية، كانت أفضل كثيرا من نظيرتها الحالية، أى ظروف ما بعد انتهاء الحرب الباردة، واتساع الفجوة التكنولوجية والاقتصادية والاستراتيجية بين الدول العربية مجتمعة وفرادى، وبين الدول الاقليمية البازغة، وبعد ظهور تحديات جديدة وخطيرة، كالانقسامات الطائفية، والحروب الأهلية، وأزمات المياه التى تجسدها الأزمة الحادة حول النيل فى مصر، والفرات فى العراق، فضلا عن الأزمة الاقتصادية العامة فى الدول التى لا تتمتع بوفرة نفطية.
فهل يستطاع تحويل هذا الممكن نظريا إلى ممكن عمليا؟ وكيف؟
فى تجارب الشعوب ــ ولسنا استثناء منها ــ يحدث غالبا أن الطرفين يتقاربان بدرجات وبطرق مختلفة، فيسعى المطالبون بالتغيير إلى امتلاك بعض أدواته، ويدرك محتكروا الأدوات ضرورة الاستجابة لبعض المطالب، ومن ثم يبدأ التفاعل، أو ما يسمى فى اللغة الإنجليزية بالـ process ولكن ما هى أهم الأدوات المتاحة والمناسبة، والتى يتعين على المطالبين بالتغيير امتلاكها أو السعى من امتلاكها فى حدود العمل السلمى الشرعى؟
نقتصر فى إجابتنا على هذا السؤال على الحالة المصرية، لأنها المؤهلة أكثر من غيرها من البلدان العربية، بحكم مناعتها ضد الحروب الأهلية، والطائفية، وبحكم قوة دولتها العميقة، ووحدتها الوطنية، ووحدة قواتها المسلحة، وعراقة مفهوم الدولة الحديثة فيها، بالمقارنة بشقيقاتها إلى الشرق، والى الغرب، والى الجنوب، والإجابة هى تقوية المجتمع السياسى والمدنى أمام الدولة العميقة، ولا سبيل إلى ذلك سوى الانخراط بكثافة فى الأحزاب السياسية الشرعية، جنبا إلى جنب مع العمل بأعلى درجة من التصميم على علاج السلبيات المتجذرة فى الحركة الحزبية المصرية.
والحقيقة أننى أعجب بصفة شخصية من الذين يتساءلون ما العمل؟ وينعون على الآخرين ــ وخاصة فى الأحزاب ــ عجزهم، ولا يشاركون بأية صورة من الصور فى العمل السياسى المنظم من خلال الأحزاب؟ فالسماء لا تمطر ديمقراطية، ولا مشاركة، ولا تمويلا.
بالطبع فنحن ندرك ــ كما يدرك غيرنا ــ العقبات المفروضة على الأحزاب، والحصار المضروب عليها، والتشويه المتعمد لها ولقياداتها، كما ندرك ما يلحق بالنشطاء الحزبيين من تعنت ضد مصالحهم وأشخاصهم على المستويات المحلية، والوظيفية، والقومية، ولكن كل ذلك ليس إلا إحدى حقائق الحياة السياسية المصرية، وذلك بتعبير صريح من أحد أقطابها، وهو المهندس سيد مرعى، كما أشرت فى مقال هنا فى الشروق تحت عنوان «كتاب موسى ويوم سلماوى»، وعليه فإما أن نكف عن طلب التغيير، وإما أن نتعامل مع هذه الحقائق، مدركين أن حزبا أعضاءه بالملايين، ولديه من التمويل ما يكفى، سيكون أقوى أمام هذه العقبات من حزب أعضاءه عدة آلاف أو عدة مئات، ومن ثم يتمكن مع غيره من الأحزاب المماثلة من تغيير المعادلة التى سبقت الإشارة إليها، أو على الأقل تحسين موقف المجتمع السياسى فيها، بما يدفع «محتكرى أدوات التغيير» إلى مرونة الاستجابة.
أما عن علاج سلبيات الحركة الحزبية المصرية المزمنة، فقد سبق أن تناولناه أكثر من مرة، وهو فى عجالة، التحرر من العقلية الاحتجاجية، وعدم تعجل إحراز مكاسب انتخابية على حساب البناء التنظيمى والبرامجى، والاقتناع إلى حد العقيدة أن الشرط الأول لنجاح الديمقراطية هو قبول الهزيمة، لتفادى ظاهرة الانشقاقات أو الانسحاب عند كل استحقاق انتخابى داخل هذا الحزب أو ذاك.
وهنا تقع مسئولية تاريخية ضخمة على الأجيال الجديدة، فهى فى معظمها التى صنعت ثورة يناير، وكانت الطليعة والمحرك فى 30 يونيو، وهى أيضا الكتلة الأكبر بين المقتنعين باخفاق تجربة الحكم الوطنى السابقة كلها قبل يوليو 1952، وبعدها، ومن ثم فهى الكتلة الأكبر بين المطالبين بالتغيير، فكيف تبقى هذه الأجيال خارج الحركة الحزبية؟ فهل يعلم أولئك أن الذين قادوا أو مهدوا لثورة 1919 هم فى الحقيقة شباب الثورة العرابية المهزومة، ومنهم الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول مثلا؟ ولكن بعد أن استوعبوا الدرس، وآمنوا بأهمية العمل السياسى المنظم، والنفس الطويل.
لصفرية المهيمنة على المجتمع السياسى فى مصر، وبعبارات اجرائية محددة، فسوف يحدث التغيير، عندما يدرك المطالبون به أهمية، وحتمية دور الدولة العميقة وفى قلبها القوات المسلحة فى الحياة السياسية، وفى المقابل عندما تدرك الدولة العميقة جدارة المجتمع السياسى بالمشاركة، وضرورة هذه المشاركة، لنجاح مشروع الدولة المتقدمة المستقلة، وعندما يقر الإسلاميون بالدولة الوطنية، مقابل حقهم الديمقراطى فى المشاركة، وعندما يرى الإخوان المسلمون أن لجمال عبدالناصر، بعض الإيجابيات، وفى المقابل عندما يعترف الناصريون بمظالم الإخوان، وغيرهم من ضحايا العسف والتعذيب، وكذلك عندما يكف أولئك الناصريون عن اتهام السادات بالخيانة، ويعترفون بأنه الرجل الذى قاد انتصار اكتوبر، والرجل الذى أوقف التعذيب، فى حين يكف الساداتيون عن رجم عبدالناصر وانحيازاته الاجتماعية جنبا إلى جنب مع الإخوان، ومع المتعالين والمستغلين طبقيا.
عندما يحدث ذلك سوف تحل قيمة الاعتدال محل التطرف، ويحل مفهوم النسبية محل فكرة المطلق، وهما معا أى الاعتدال والنسبية يشكلان جوهر الحكم الديمقراطى القائم على التعددية، والمشاركة، ومساءلة الحاكم، وتداول السلطة، وحكم القانون، وهذه كلها هى جوهر التغيير، الذى نتساءل مع كثيرين غيرنا غيرنا: ما العمل لتحقيقه؟!
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع