بقلم - عبد العظيم حماد
كان ولا يزال من أكثر ما أحببته من معانى حرب أكتوبر 1973 تلك العبرة التى استخلصها الرئيس الراحل أنور السادات من نتائج هذه الحرب بقوله: «لقد أصبح لهذا الوطن درع وسيف».
الوصف هو للجيش المصرى الذى حقق معجزة عبور قناة السويس، وتدمير خط بارليف، وشل تفوق سلاح الطيران الإسرائيلى،وجاء فى خطاب السادات أمام البرلمان يوم 16 أكتوبر، أى بعد عشرة أيام من بدء المعركة، وكما نعلم فإن الذى صك هذا التعبير، وكتب الخطاب كله هو الأستاذ محمد حسنين هيكل.
أحببت هذه العبرة أو هذا التعبير لأن تاريخ مصر يؤكد أنها لا تكون كيانا قويا، غير تابع لأية كيانات أو قوى من خارجها إلا إذا كان لها جيشها المستقل القوى، وحين تفقد مصر هذا الجيش، فإن ذلك يكون إما سببا فى ضياع هذا الاستقلال، أو نتيجة لتبعيتها لقوة من خارجها.
حين أضمحلت الدولة المصرية فى أواخر عصورها الفرعونية، وفقدت الجيش القوى، فقد غزاها الأشوريون، ثم الفرس ثم الإغريق ثم الرومان، ثم فتحها العرب، وفى كل تلك العصور كانت مصر مجرد ولاية تابعة لمركز امبراطورى أجنبى، باستثناء العصر البطلمى، الذى كانت مصر فيه دولة مستقلة فى إطار هيمنة الثقافة الهيلينستية، ومن ثم فقد كان لها جيشها المستقل حتى جاء الرومان، وما كان لذلك أن يحدث لولا الموت المبكر للفاتح المقدونى الاسكندر الأكبر، وتقسيم امبراطوريته بين قواده، كما هو معروف للجميع.
ثم ظلت مصر مجرد ولاية تابعة طيلة العصرين الرومانى والعربى الإسلامى، وإذا استثنينا الخلافة الفاطمية التى كانت مصر هى قاعدتها، ومن قبلها المحاولتين القصيرتين للدولتين الطولونية والإخشيدية، فإن عودة مصر إلى الاستقلال واحتلالها مركز القيادة فى المنطقة لقرون متطاولة ارتبط باتخاذها قاعدة للدولة الأيوبية، ثم الدولتين المملوكيتين فى غمار الحروب الصليبية، والغزوات التتارية، وهو ما استند على وجود «الجيش المصرى القوى».
صحيح أن هؤلاء الحكام وجنودهم لم يكونوا مصريين بالدم، ولكنهم كانوا مصريين بالسياسة والاقتصاد والجغرافيا السياسية، أى إن مصر كانت القاعدة والحاضنة.. والقائدة فى نهاية المطاف.
وعندما هزم الجيش المصرى المملوكى أمام العثمانيين فقد عادت البلاد إلى وضع الولاية التابعة، المجردة من الجيش أى من الدرع والسيف، حتى أسس محمد على دولته الحديثة وجيشها فى مطالع القرن التاسع العشر، وبذلك صارت مصر مركزا مناظرا، بل ومهددا للدولة العثمانية ذاتها، وهو ما لم يتوافر لأية ولاية أخرى تابعة لاسطنبول، ولذلك كان تحجيم الجيش المصرى من أولويات الدول الكبرى بعد عام 1840، ثم طوال فترة الاحتلال البريطانى، حتى معاهدة 1936، التى مكنت حكومة حزب الوفد من تنفيذ مشروعها لتقوية الجيش المصرى، بإدخال أبناء المصريين العاديين إلى الكلية الحربية، ومن ثم إلى سلك الضباط.
إذن هنا ارتباط شرطى بين مصر المستقلة القائدة وبين الجيش القوى، أى الدرع والسيف لهذا الوطن.
بالطبع يوجد هذا الارتباط الشرطى بين الاستقلال الوطنى والجيش القوى فى معظم دول العالم كقاعدة عامة، لكنه يكتسب أهمية خاصة فى حالات بعينها لأسباب تاريخية وجيوبوليتيكية كحالتنا المصرية وتأكيدا لذلك فقد كانت كل التقارير الدولية الرسمية والبحثية قبل ثورات الربيع العربى تتوقع فوضى وحروبا أهلية فى كثير من البلدان العربية، التى يحكمها رؤساء ضباط، بعد أن أوصلوا بلادهم إلى طرق مسدودة، ليورثوا الحكم لأبنائهم باستثناء مصر، بفضل وحدة ووطنية وقوة واحترافية جيشها، أى عدم طائفية أو إقليمية أوقبلية أو حزبية هذا الجيش، فضلا عن كونه جيش الوطن وليس جيش الحاكم، وأذكر أن أحد الذين جرأوا على أن يقولوا ذلك علنا هو الدكتور غسان سلامة، المبعوث الأممى الحالى فى ليبيا.
بالطبع يجب ألا ننسى أن مفهوم الجيش المحترف هو تطبيق حديث نسبيا يعود إلى الحروب النابليونية، فقد كان فارس العصور الوسطى ارستقراطيا وهاويا، وكان ضباط الجيوش الأوروبية بعد ذلك وحتى القرن الـ18 متطوعين أو مرتزقة أو من بقايا الفرسان الارستقراطيين، فى حين كان الضباط بل والجنود فى منطقتنا من المماليك، وحسب ما يقوله صمويل هانتنجتن: «لم يبدأ الضباط فى تلقى تكنيك حرفى خاص، والتحول إلى فئة ذات طبيعة خاصة إلا فى حروب نابليون، وإذن فالجندى المحترف كنمط اجتماعى هو سمة خاصة بالمجتمع الحديث، شأنه شأن رجل الصناعة».
ويلفت نظرنا هنا أن هذه هى نفسها الحقبة التى أسس فيها محمد على الجيش المصرى الحديث، مما يعنى أنه جيش تأسس من البداية على مفهوم الاحتراف المهنى، ولذلك فإن صورة الذات عند الضابط المصرى هى أنه وطنى متعلم (أى ينتمى إلى فئة الانتليجينسيا، ولكن بالزى العسكرى)، ومن هنا ظهرت نظرية المسلك الطبيعى، التى عبر عنها جمال عبدالناصر فى كتاب فلسفة الثورة، والفريق إبراهيم عبود رئيس السودان الأسبق بوضوح، بما معناه أنه عندما تختل الأوضاع الداخلية اختلالا خطيرا، أو تتهدد الوطن أخطار خارجية، فإن على الجيش أن يتولى مباشرة زمام السلطة، من أجل الإحياء أو الإنقاذ، لكن يبقى أن الشرط المهم لنجاح هذه المهمة هو ما اقتبسناه فى مقالات سابقة، من البروفسور دانكوارت روسو مؤسس دراسات التحول الديمقراطى فى الجامعات الأمريكية، ونكرره هنا: «إقامة مؤسسات مدنية ودستورية قوية وناجحة».
هنا ندخل إلى قلب المعضلة المصرية والعربية فباستثناء التنظيمات السياسية ذات التكوين الدينى، أى تنظيمات الإسلام السياسى على وجه الخصوص، فإن جميع المؤسسات والمنظمات المدنية تعانى من ضعف مزمن ومطرد، ولا جدال فى أن المسئولية عن هذه الحالة تتوزع ما بين هذه التنظيمات وبين السلطات الحاكمة، ولكن المحصلة النهائية هى أن النخب المدنية مبتعدة.. ومبعدة عن خبرة إدارة كثير من شئون الدولة والمجتمع، وبصفة خاصة ملفات الأمن القومى والسياسة الخارجية، والعلاقات المدنية العسكرية، فى حين يتطلب المستقبل تكامل الجهود والخبرات، وهنا نتذكر واحدا من أهم دروس حرب أكتوبر المجيدة، وهو تحقيق هذا التكامل فى إطار مؤسسى نجح فى إعادة بناء وتأهيل القوات المسلحة، وإعداد الدولة للحرب، من خلال تفعيل دور مجلس الأمن القومى، الذى كان يضم فى ذلك الوقت كبار المسئولين من عسكريين ومدنيين، قبل أن يقرر الرئيس السادات ثم حسنى مبارك العودة إلى الانفراد بالقرار، لتسود من جديد لغة التوجيهات الرئاسية.
لكن هذه التجربة الناجحة فى وقتها ليست إلا نموذجا واحدا من النماذج التى تكفل تكامل الجهود والخبرات العسكرية والمدنية اللازمة لنجاح عملية الإحياء.. أو البناء لوطن له درع وسيف.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع