منذ بعض الوقت، تلوح مجموعة من المؤشرات الإيجابية على رغبة المجتمع فى عدم الاستسلام لحالة الفراغ السياسى، التى تعمقت من جراء أزمة الثقة بين الحكم وبين عدد كبير من الأحزاب حول قضية جزيرتى تيران وصنافير، وازدادت عمقا بسبب تجريد انتخابات الرئاسة المقبلة من طبيعتها التنافسية.
من هذه المؤشرات تكوين الحركة المدنية الديمقراطية كمنبر للتنسيق السياسى بين عدد كبير من الأحزاب والشخصيات العامة المستقلة.
ومنها التقارير الحديثة عن اتجاه تكتل دعم مصر فى مجلس النواب إلى التحول إلى حزب سياسى كظهير لرئيس الجمهورية.
ومنها أيضا رفض الهيئة الوفدية لترشيح رئيس الحزب لانتخابات الرئاسة المقبلة فى الظروف المعروفة للجميع، بما لا داعى معه لإعادة سردها، ثم الانطلاق من هذا الرفض لتحويل المؤتمر العام (الاعتيادى) الذى تأجل موعد انعقاده من 30 مارس إلى يوم 25 إبريل المقبل إلى فرصة لإعادة بناء الحزب، سيما وأنه طبقا للائحة حزب الوفد أو نظامه الأساسى، لا يحق للرئيس الحالى إعادة الترشح للمنصب، وحسبما يتردد فى الأروقة الوفدية فإن النية تتجه إلى اختيار شخصية توافقية لقيادة الوفد فى المرحلة المقبلة، بوصفها – فى رأى الكثيرين – مرحلة انتقالية، تتركز الجهود فيها على إعادة البناء التنظيمى، وإحياء التقاليد الليبرالية لهذا الحزب العريق، على أن تكون الخطوة الأولى والكبيرة فى هذا الاتجاه، هى عودة أو استعادة ما يسمى بتيار الاصلاح، بأعضائه وقياداته من الشخصيات ذات الوزن والمصداقية، من طراز الأساتذة منير فخرى عبدالنور، وفؤاد بدراوى ومحمود أباظة.
أيضا من تلك المؤشرات على رفض المجتمع لاستمرار حالة الفراغ السياسى صدور قرارات من بعض الأحزاب، أو تبلور اتجاهات لدى أحزاب أخرى برفض فكرة تجميد نشاطها، احتجاجا على الممارسات الحكومية ضد النشاط السياسى عموما، وضد الأحزاب على وجه الخصوص، فقد سبق أن قررت الهيئة العليا للحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى رفض فكرة التجميد، وهذا ما قررته أيضا اللجنة المركزية لحزب التحالف الشعبى الاشتراكى فى اجتماعها أوائل هذا الأسبوع، وهذا هو أيضا الاتجاه السائد لدى حزبى الكرامة والدستور.
وبالتأكيد فقد قرأنا عن اعتزام شخصيات عامة ــ لها تجربة سابقة فى العمل الحزبى، والعمل السياسى عموما ــ بدء اتصالات لإنشاء حزب سياسى جديد بعد انتخابات الرئاسة.. فهذا إذن مؤشر خامس من المؤشرات التى نتحدث عنها.
أما أحدث المؤشرات فهو النجاح الذى حققه تيار الاستقلال فى مجالس معظم الشعب الفرعية لنقابة المهندسين فى الانتخابات التى بدأت يوم الجمعة الماضى، وتنتهى اليوم بانتخاب النقيب العام، وذلك على الرغم من الترويج – حقا أو باطلا ــ لتفضيل الحكومة، أو الدولة العميقة للمرشحين المنافسين، ودعمهم على غرار ما كان تفعل الحكومات والحزب الوطنى فى الانتخابات النقابية فى عهد حسنى مبارك، وبالطبع فلا يخفى على المتابعين أن تيار الاستقلال فى نقابة المهندسين يضم قيادات حزبية من المصرى الديمقراطى الاجتماعى، ومن الوفد، وأحزاب أخرى، بما يشير إلى تجربة ناجحة فى التنظيم والاتصال، يمكن أن تتكرر فى سائر الانتخابات نقابية أو محلية أو نيابية.
صحيح أن هذه المؤشرات الايجابية الستة ظهرت على سفح الحياة السياسية، لا على قمتها المتمثلة فى الرئاسة، والحكومة والبرلمان، باستثناء تحول ائتلاف دعم مصر ذى الأغلبية البرلمانية إلى حزب سياسى.
وصحيح أيضا أن المناخ العام فى البلاد لا يزال مكفهرا من جراء الموقف الرسمى الكاره لكل نشاط حزبى، والمستريب من كل عمل سياسى، إلا أن عنوان المقال نفسه يشير إلى عدم الإفراط فى التفاؤل، بما أننا اعتبرنا أن كل تلك المؤشرات السابق سردها ليست أكثر من أمل من ثقب إبرة.
ولا جدال فى أن إبقاء هذا الأمل حيا، وتقوية عوده هما مسئولية مشتركة بين الأحزاب، والمجتمع، والحكومة، وإذا كان كثيرون قد نبهوا الحكومة مرارا وتكرارا إلى خطورة الفراغ السياسى على الأمن القومى، وعلى جهود التنمية من زاوية أنه يترك المجتمع سداحا مداحا للتنظيمات المتطرفة، والمتجاوزة للدولة الوطنية، ومن زاوية أنه يسمح بظهور مراكز قوة جديدة على المدى الطويل بمنأى عن المراقبة والمساءلة، فلعل الفترة الرئاسية الثانية تكون فرصة أنسب لمراجعة الموقف السياسى الداخلى كله من منظور جديد، سيما بعد ظهور حزب حاكم، وسيما أن الدرس المستخلص من كل ما جرى حول الانتخابات الرئاسية لدى معظم الأحزاب، والناشطين السياسيين هى عبثية الرهان على التغيير من أعلى ــ أى من خلال التنافس على منصب الرئيس ــ مع التركيز ــ بدلا من ذلك ــ على البناء الحزبى والتنظيمى أملا فى تغيير المعادلة نفسها على المدى الطويل. نأتى الآن إلى مسئولية الأحزاب والمجتمع عن مقاومة حالة الفراغ السياسى، ولا جدال هنا فى أن الأحزاب مقصرة ــ سواء بإرادتها أورغما عنها ــ فى إقناع مجتمعها بخطورة هذا الوضع، وهذه هى الخطوة الأولى المطلوبة من الأحزاب جميعا، ومن كل حزب على حدة، ومن كل مهتم بالتحول الديمقراطى فى مصر طريقا للتقدم والنمو وحماية الأمن القومى والاستقلال الوطنى، بل إن هذه هى الخطوة الأولى – فى الوقت نفسه – لتقوية الحركة الحزبية عموما، وتقوية كل حزب بمفرده لدى قواعده الاجتماعية أو الفكرية النشطة والمفترضة.
وفى اعتقادى أن السؤال الواجب طرحه على الجميع هو: هل توجد ضمانات لنجاح الشمولية المتجددة لم تكن متوافرة للشموليات السابقة التى أخفقت كلها بإجماع الآراء، وإلا لما كنا وصلنا بمصر إلى وضع شبه الدولة أو أشلاء الدولة؟!
إن المنتمين للأجيال التى عاصرت تلك «الشموليات» السالفة يذكرون بالقطع أنه فى كل مرة انتقلت السلطة من حاكم أو رئيس إلى حاكم أو رئيس جديد، كان التفاؤل كاسحا، وكانت الآمال تطاول السماء، وكان الجميع أو الأغلبية الساحقة موقنين تمام اليقين بأن الرئيس الجديد لن يكرر أخطاء الرئيس السابق.
حدث ذلك مع إلغاء النظام الملكى، وقيام النظام الجمهورى، وكانت صور الضباط الأحرار تملأ الشوارع والميادين والحارات والمنازل، وسمى الآباء مواليدهم الجدد بأسماء نجيب وجمال وناصر، لكن الشمولية ــ وبعد سلسلة من الانتصارات الأولية ــ أيقظت الجميع على كابوس هزيمة 1967، والتى لم تكن فى حقيقتها سوى ذروة أخطاء وخطايا وقعت فيها الشمولية الناصرية بلا رقيب أو حسيب.
وهكذا أيضا كان الحال مع شمولية السادات، فالرجل استقبل بتأييد شعبى واضح كى يواصل معركة تحرير سيناء، ثم ازدادت شعبيته بالقضاء على مراكز القوة فى مايو 1971، وابطاله كثيرا من ممارساتهم القمعية، واقراره لدستور دائم نص على عدم بقاء الرئيس فى منصبه لأكثر من فترتين، ثم ارتفعت شعبيته إلى عنان السماء بانتصار أكتوبر عام 1973، ورغم ما شاب سياسة الانفتاح الاقتصادى من تشوهات خطيرة، ورغم توقف عملية التنمية ــ فقد ظل السادات يحتفظ بمعدل معقول من الشعبية حتى انقلب هو على انجازاته الديمقراطية المحدودة بعد مظاهرات الطعام فى يناير عام 1977، ليصدر قوانين قمعية، ويضطهد الأحزاب والمعارضين جميعا، ويعدل الدستور ليبقى فى السلطة مادام على قيد الحياة، وصولا إلى اعتقالات سبتمبر 1981، فاغتياله فى الشهر التالى.
وكان اغتيال السادات برصاص التطرف الدينى سببا فى التفاف المصريين من كل الاتجاهات وراء اختيار نائبه حسنى مبارك للرئاسة، وكان الاقبال الكبير على التصويت بنعم فى الاستفتاء على رئاسته هو فى حقيقته تصويت بالرفض للتطرف الدينى، ولمبدأ الدولة الدينية، ومرة أخرى عم التفاؤل ربوع مصر، وطاولت التوقعات عنان السماء، عندما أطلق الرئيس الجديد سراح المعتقلين، وأعلن تحويل الانفتاح الاقتصادى من «استهلاكى» إلى انتاجى، وأطلق مقولة إن «الكفن ليس له جيوب» إشارة إلى رفض الفساد الذى كان قد تفشى، وعندما تعهد بعدم البقاء فى منصبه أكثر من مدتين، وعقد عدة لقاءات مع زعماء الأحزاب المعارضة، إلا أن الرجل سرعان ما عاد إلى سيرة سابقيه، لتعانى مصر وشعبها من كل موبقات الشمولية، التى أوصلتنا إلى ثورة يناير والى حالة شبه الدولة، وهنا يغنى الاجمال عن التفصيل.
إذن يعود السؤال: ما الذى يضمن ألا تكرر الشمولية المتجددة المرحب بها لدى قطاعات مهمة فى المجتمع أخطاء سابقاتها وقد رأينا أن جميع الرؤساء استقبلوا بالترحيب نفسه، والتفاؤل عينه؟
هذا السؤال وإجابته هو ما يجب أن يكون موضوع الحوار والاتصال بين الأحزاب وبين المجتمع، ليتسع ثقب الإبرة فيصبح بابا فسيحا لديمقراطية وتعددية – أى لحياة سياسية طبيعية.
نقلا عن الشروق القاهرية