بعيدا عن التفكير بالتمنى، أو بالاستقطاب، يجب الاعتراف بوجاهة ومنطقية التفسير الذى قدمه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى حديثه الأخير فى فيلم «شعب ورئيس»، لانعدام المنافسة الحقيقية فى انتخابات رئاسة الجمهورية، التى انتهت أمس الأول هذا التفسير ــ كما جاء على لسان الرئيس ــ هو أننا لسنا جاهزين بعد.
فليس صحيحا فى اعتقادى أن أيا من الفريق أحمد شفيق، أو الفريق سامى عنان كان يمثل فرصة حقيقية للمنافسة على الرئاسة، بالمعنى المتعارف عليه، أى المنافسة بين تيارات أو تنظيمات أو رؤى شاملة، بل إن أفضل ما كان يمكن أن يمثله كل منهما هو المنافسة بين رؤى فردية من داخل تيار واحد فقط، هو تيار الدولة العميقة، أما أسوأ ما كان يمكن أن يمثله شفيق وعنان فهو التناحر داخل نفس التيار، مدفوعا بالطموحات، والمرارات الشخصية، وصراعات الأجيال، وأما الأكثر دقة فهو أن الرجلين كانا يمثلان مزيجا فيه الكثير من «الشخصى»، والقليل من «الموضوعى» من نفس المنبع، إلا أنهما فى حقيقة الأمر لم يكونا يملكان أية مصادر يعتد بها للقوة السياسية من داخل ذلك التيار، أو من مؤسسة الدولة.
وأما المرشحون الذين كانوا محتملين من خارج الدولة العميقة، فلم يكونوا يملكون فرصة معقولة للترشح، فضلا عن المنافسة، والقول بغير ذلك هو خداع للنفس، وتفكير بالتمنى، أو بالاستقطاب والمكايدة.
نلمس فى استخدام الرئيس السيسى لمصطلح «عدم الجاهزية بعد للمنافسة» تقدما نسبيا فى نظرة الدولة العميقة لقضية جدارة الشعب المصرى بالحكم الديمقراطى، مقارنة بالرسالة الموجهة دائما من المتحدثين باسم هذه الدولة لترسيخ عقيدة أن هذا الشعب لا يصلح للديمقراطية، وأن الديمقراطية لا تصلح له، أو هذا ما نأمله، والفارق واضح بين الرأيين، ففى حالة عدم الجاهزية بعد تكون الأسباب ظرفية، ومن ثم مؤقتة، أى تزول بزوال مسبباتها، وبتوافر شروط التحول الديمقراطى، أما فى حالة عدم الصلاحية من الأصل فإن الأسباب تكون أبدية، أو بمعنى آخر حتمية تاريخية لا فكاك منها.
دون استغراق فى التنظير، ودون انسياق أعمى وراء تبريرات تجدد الميول السلطوية فى عديد من الدول العريقة فى تقاليد الديمقراطية، فإن أسطورة عدم صلاحية شعوب بعينها للحكم الديمقراطى قد تكرر سقوطها فى جميع أنحاء العالم على اختلاف الثقافات والتقاليد والعقائد والتكوينات الاجتماعية، وعليه فلا حجية يعتد بها لمثل هذه الأسطورة، وعليه أيضا فإن التركيز يجب أن ينصبّ على أسباب عدم الجاهزية للتحول الديمقراطى فى الحالة المصرية، وعلى البحث عن الشروط التى تتيح هذه الجاهزية، والعمل على تحقيق تلك الشروط.
بمقارنة نتائج ثورة يناير 2011، بنتائج ثورة 1919 (التى تحل ذكراها المئوية فى العام المقبل) من زاوية دفع التطور الديمقراطى لنظام الحكم، سوف نكتشف أن السبب الرئيسى لإنجازات ثورة 1919 أن المجتمع كان قد قوى تنظيميا، بما يكفى لإفراز قيادات للثورة، على جميع المستويات، وبما يكفى لموازنة الدولة العميقة، وسلطة الاحتلال معا، وكثيرا ما تفوقت قوة المجتمع على قوة الرجعية فى الدولة.
صحيح أن المجتمع المصرى لم يحقق انتصارا كاملا ونهائيا على الرجعية والاحتلال كنتيجة لثورة 1919، ولكنه قطع شوطا بعيدا فى فرض نفسه كطرف أصيل وفاعل ولا يمكن تجاهله فى معادلة الحكم والسياسة.
أما أسباب قوة المجتمع قبيل وفى أثناء ثورة 1919، وبعدها، فترجع إلى إيمان النخبة بفكرة التنظيم، والتى ثبت جدواها فى استيعاب صدمة الاحتلال البريطانى، ابتداء من الجمعيات الأهلية الخيرية للمدارس والمستشفيات، وتطور النوادى الفئوية كنادى خريجى المدارس العليا، الذى أمد ثورة 1919 بقياداتها الوسيطة، وصولا إلى الأحزاب السياسية، والجامعة الأهلية وبنك مصر، بل وحتى نادى الموسيقى الشرقية والنوادى الرياضية، وخلافه، فضلا عن النقابات المهنية والعمالية، والغرف التجارية واتحاد الصناعات، وكلها نشأت وتطورت بطريقة الانبثاق من المجتمع تلقائيا، وليس بالاصطناع السلطوى.
لا خلاف فيما نظن على أن هذه لم تكن الحال فى ثورة يناير 2011، ولم تكن تلك إلا إحدى نتائج النظام السياسى، الذى أقامه ضباط يوليو 1952، وهو بطبيعته نظام استبدادى اقصائى احتكارى فى السياسة والاقتصاد والثقافة والفكر، يفرض الاستقرار الشكلى من أعلى، فى حين يموج المجتمع والنظام نفسه بالصراعات على كل المستويات، وسط حالة تعتيم وإنكار، ورفض مطلق للمساءلة والرقابة، وإحالة الفشل على المؤامرات الخارجية.
من الطبيعى إذن الا تتخلق فى مثل هذا المجتمع نخبة مدنية قادرة على قيادة الدولة، أو المنافسة على قيادتها، يضاف إلى ذلك أن البيروقراطيين والتكنوقراط من المدنيين المنخرطين فى جهاز هذه الدولة، لم يكونوا يوما ما مؤهلين للمشاركة كأنداد فى القرار السياسى؛ لأنهم يشغلون ويتركون مواقعهم بإرادة أكبر منهم، كما أنهم فى الغالب لا إطلاع لهم، ولا خبرة لديهم بقضايا الأمن القومى والسياسة الخارجية الرئيسية، ومن ثم يصبح منطقيا القول بعدم جاهزية مصر لانتخابات رئاسية تنافسية بالمعنى الصحيح، أى عدم جاهزيتها للتحول اليمقراطى.
لكنها كلها أسباب ظرفية مرتبطة بطبيعة النظام السياسى، وقد قلنا فى فقرة سابقة إن التركيز يجب أن ينصب على إزالة هذه الأسباب، وعلى توفير شروط نجاح التحول الديمقراطى، ولو تدريجيا.
فى مقدمة هذه الشروط، ما سبق أن كتبناه هنا مرارا، وهو الإيمان بالعمل المنظم السلمى من خلال الاحزاب، مع الالتزام بسياسة النفس الطويل، والتركيز على التوافق الاستراتيجى على حساب الخلافات التكتيكية، ومراجعة الاخطاء المتكررة داخل كل حزب، وفى الحركة الحزبية عموما، وفى مقابل ذلك يتعين على الدولة العميقة، قبل أن يكون الأمر بيد غيرها، أن تقتنع بخطورة الاستمرار فى استراتيجية وأد أو إجهاض التنظيمات الديمقراطية المدنية، وسد المنافذ أمامها بالحيل التشريعية، والوسائل الإدارية، والملاحقة الأمنية.
والحقيقة أن الحساسية المفرطة تجاه هذه التنظيمات ليس لها أى مبرر على الاطلاق، إذ لا يتوقع إلا ساذج أن تشارك القوى المدنية بنصيب كبير فى السلطة، أو فى القرار السياسى، فى ظل أفضل شروط المنافسة الحرة.. حاليا، وفى الأجل الطويل المنظور، ولكن هذه المشاركة المحدودة سوف تحقق مكاسب لا حصر لها لجميع الأطراف، إذ سوف تنكسر حدة الاستقطاب، وسوف تتحلى المعارضة بشعور أقوى بالاعتبارات والحسابات الواقعية للسلطة، وسوف تكتسب خبرات عملية تؤهلها لدرجات أعلى من المسئوليات، كما ستكسب الدولة العميقة رديفا مؤثرا فى مواجهة التطرف والإرهاب، والأزمات الإقليمية والدولية.
بافتراض أن التيارات والقوة السياسية المدنية تعرف هذه الحدود القصوى لدورها، وهى بالفعل كذلك، فما الذى يدفع الدولة العميقة للتعاون فى توفير شروط الجاهزية للتحول الديمقراطى؟ الإجابة هى تمثل نتائج العهود السابقة من نظام يوليو، والتى لم تسفر إلا عن «شبه أو أشلاء دولة»، والوعى بخطورة الاستمرار فى هذا المسلك، ثم الوعى بأن حجم المشكلات والتحديات الداخلية والإقليمية والدولية المحيطة بـ100 مليون مصرى أكبر بكثير من أن يواجهها جهاز دولة يعترف بأن مجتمعه غير جاهز، ليس فقط للمنافسات الانتخابية، ولكنه غير جاهز أيضا تعليما وتصنيعا وتحكيما للقانون، وإقرارا بالمسئولية والمساءلة السياسيتين.
نقلاً عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع