كنا جلوسا على متن سفينة على ضفاف نهر الماين نؤدى واجب الضيافة لمسئول كبير جدا فى رئاسة الجمهورية ذات صباح فى صيف عام 2003، حين تطرق الحديث إلى أسباب خروج أو إخراج السيد عمرو موسى من منصب وزير خارجية مصر إلى منصب أمين عام جامعة الدول العربية، فقال الضيف العليم ــ بحكم منصبه بكل صغيرة وكبيرة ــ إن عمرو موسى كان يتصرف على انه صانع سياسة مصر الخارجية، أو على الأقل على أنه شريك رئيسى فى صنع هذه السياسة، فى حين أن المعمول به فى نظامنا السياسى هو أن رئيس الجمهورية هو الذى يصنع السياسة الخارجية، وما وزير الخارجية سوى منفذ، ولذا فإن أحمد ماهر (الذى خلف موسى فى المنصب) هو وزير الخارجية المثالى فى بلد مثل مصر، ثم أضاف الرجل ملخصا أسباب ضيق الرئيس حسنى مبارك وأركان نظامه بعمرو موسى فى السنوات الأخيرة من وجوده على رأس الدبلوماسية المصرية قائلا: «لو كان عمرو قد استمر فى الخارجية.. لكنا دخلنا حربا».
من ناحيتى اعتبرت هذه الجملة الأخيرة مبالغة، لأن قرار الحرب بالذات، وفى كل دول العالم هو اختصاص حصرى لرئيس الجمهورية، أو لرئيس الوزراء فى الدول التى تأخذ بالنظام البرلمانى، ولأن عمرو موسى لم يكن فى يوم من الأيام داعية حرب، أو غافلا عن الحسابات الرشيدة للأمن القومى، ومن ثم فالرجل يريد أن يقول إن أداء موسى كثيرا ما أغضب إسرائيل والولايات المتحدة، إلى درجة التأزم الشديد فى العلاقات المصرية مع الدولتين.
ربما يبين هذا التقويم من جانب مؤسسة الرئاسة وأجهزتها المعاونة لدور وأداء موسى كثيرا من أسباب نجاح الوشايات المستمرة ضده لدى الرئيس.
ولكن هذا التقويم نفسه من ناحية أخرى يؤكد مصداقية السيد عمرو موسى فى فهمه لدوره كوزير خارجية، كما شرحه فى «كتابيه»، وهو الدور الذى وصفه بأنه يشبه دور الدكتور محمد صلاح الدين وزير خارجية حكومة الوفد الأخيرة مع رئيس الحكومة (وزعيم الأمة) مصطفى النحاس باشا.
لقد اخترت هذا المدخل للكتابة عن مذكرات أشهر وزير خارجية مصرى فى العقود الأخيرة، لتفنيد ملاحظات لبعض الكتاب والخبراء والقراء العاديين، أبدوا فيها شكوكهم فى جدوى ما قدمته الدبلوماسية المصرية تحت قيادة موسى من مبادرات، كما أبدوا تحفظات على ما سموه مبالغة الرجل فى تقدير ذاته، وانجازاته، وهو ما يعود فى رأيى إلى مناخ الاحباط العام الذى يسود فى مصر، وفى العالم العربى منذ بداية القرن الحالى تقريبا، مع الاعتراف بأن موسى لم يقل كل شىء من ناحية، ولم ينسب لنفسه أى قصور أو اخفاق من ناحية أخرى، ولكن متى كانت المذكرات فى مصر وفى العالم العربى كاملة الصراحة؟ والأهم متى لم تكن مذكرات المسئولين عندنا مرافعات أكثر منها «اعترافات»، حتى نتوقع من عمرو موسى وحده أن يشذ عن القاعدة؟!
أما عن الانجازات، فإن أهمية ذكر بعضها وتأكيدها لا تأتى فقط من إثبات مصداقية كاتب المذكرات، ولكن أيضا من شهادتها على ثقل مصر الإقليمى والدولى، إذا أحسن استثمار هذا الثقل، فمن المؤكد أن تبنى الأمم المتحدة لمبادرة اعلان الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل قد وفر، ويوفر، وسيوفر دائما مرجعية قانونية دولية، لابقاء هذه القضية الحاسمة مفتوحة للضغط السياسى والأخلاقى على «الدول المارقة نوويا» فى المنطقة، سيما إذا تذكرنا أن مصر رفضت الانضمام للاتفاقية الدولية لحظر انتاج ونشر وتخزين الأسلحة الكيماوية، ليس لأنها تنوى انتاجها أو استخدامها، ولكن لأن الدبلوماسية المصرية ربطت الانضمام لهذه الاتفاقية بتوقيع إسرائيل لمعاهدة منع الانتشار النووى، واعلان الشرق الأوسط كله منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، ويحسب للرئيس مبارك ووزير خارجيته عمرو موسى مقاومتهما للضغوط الدولية العنيفة للانضمام للمعاهدة الكيماوية.
كذلك فليس صحيحا أن الدبلوماسية المصرية أخفقت فى معركتها ضد المد اللانهائى لمعاهدة حظر الانتشار النووى فى خواتيم القرن الماضى، وهى المعركة التى أسلمت دول كثيرة قيادتها لمصر، فقد أثمرت هذه الجهود عن النص على عقد مؤتمر كل خمس سنوات لمراجعة حالة «الانتشار النووى فى العالم»، بدلا من اغلاق الملف نهائيا، وبذلك توافر محفل دولى، ومناسبة رسمية متكررة لمطالبة إسرائيل بالانضمام للمعاهدة، ولو لم يكن لذلك أهمية، ما حاولت تل أبيب اقناع القاهرة مرارا وتكرارا بعدم تقديم مشروع القرار الذى يطالبها بالانضمام للمعاهدة، وخصوصا فى دورة الانعقاد الأخيرة.
لكن الحديث عن انجازات عمرو موسى كوزير للخارجية يؤمن بثقل دولته لا يكتمل إلا بالتطرق لادائه فى المحافل الدولية وخلاصة القول فى هذه النقطة ان حضور بديهته، وطلاقة لسانه ومنطقية تعبيره، وقوة شخصيته.. كل ذلك كان يجعل دفاعه عن المصالح المصرية، والقضايا العربية مقنعا ومؤثرا.
وأما عن الزوابع التى هبت على الرجل لأنه تحدث عن شراء أطعمة سويسرية لجمال عبدالناصر، فأكتفى بالقول: ليت عبدالناصر عاش مرفها بعض الشىء، ولم ينهزم فى حرب 1967، فأيهما كان أنفع لمصر، وأيهما كان أكثر أذى لها؟!
هذا عن عمرو موسى كوزير للخارجية، أما عنه أمينا عاما للجامعة العربية، وسياسيا بعد يناير 2011، فلننتظر الجزء الثانى من المذكرات، ولننتقل إلى مذكرات الصديق العزيز، المثقف والأديب والسياسى محمد سلماوى، الذى تربطه الصداقة، والمشاركات السياسية مع السيد عمرو موسى.
لقد كان على أن أنتظر حتى الفصل الثانى عشر لأفسر لنفسى سر العنوان الذى اختاره سلماوى لمذكراته، وهو «يوما أو بعض يوم» فهذا تعبير قرآنى عن الشعور بالقصر المتناهى للزمن الماضى فى لحظة انكشاف أو اكتشاف الحقيقة.
فما هى الحقيقة التى جعلت سلماوى يشعر أن ما مضى من عمره، ومن أعمارنا كذلك يوما أو بعض يوم؟
فى رأيى أنه ــ وبحدس الأديب الأصدق من الادراك الواعى ــ أحس أن أجيالنا التى بلغت أحلامها عنان السماء، وظنت أنها ستحقق ما عجز عنه السابقون لمصر، وللأمة العربية، فى عصر التحرر الوطنى، أفاقت على أحلام مجهضة، واخفاقات مروعة، لتكتشف قرب نهاية العمر أنها لم تكن تسعى الا وراء سراب، فكلنا حلمنا بمصر قوية متقدمة حديثة وديمقراطية، واجتهدنا ــ كل على طريقته ــ لتحقيق ذلك الحلم، والمفارقة هنا أنه كان ــ حقا ــ حلما قريب المنال مرات ومرات، ثم أصبح نورا ابتلعه الظلام، ليبقى سؤال الدكتور رشاد رشدى أستاذ الأدب الانجليزى الذى سجل سلماوى اعجابه الشديد به فى المذكرات بلا إجابة، هذا السؤال وكما أطلق بصوت الفنان العظيم يوسف وهبى العميق العريض على خشبة المسرح هو: لماذا كلما لاح نور فى الظلام ابتلعه الظلام؟!
لتفصيل هذا الاجمال تروى المذكرات عن المهندس سيد مرعى قوله للكاتب بعد الافراج عنه من فترة اعتقال اعقبت مظاهرات الطعام فى يناير عام 1977 بناء على صورة فوتوغرافية ملفقة، فى حين أنه لم يشارك قط فى المظاهرات: «إن الاعتقال بدون وجه حق هو احدى حقائق الحياة السياسية فى بلادنا، وأنا أعلم وأنت تعلم أن كثيرا مما يقال فى هذه الأحوال لا يكون صحيحا».
كان ذلك عام 1977 كما قلنا، أى أن أربعين عاما من أعمارنا ضاعت، وقبلها ضاعت أعوام أخرى، دون أن نتقدم كثيرا أو حتى قليلا، ويعلم الله وحده كم من الأعوام المقبلة سوف يضيع.
فيما بعد تأكد لسلماوى ضياع الفرصة بالكامل من قول المرحوم منصور حسن له بعد حملة اعتقالات سبتمبر 1981: «إن عهد السادات بالديمقراطية انتهى إلى الأبد».
سوف يعمق احساسنا بضياع اعمارنا كأنها يوم أو بعض يوم بسبب الظلام الذى يبتلع كل شعاع من نور نحو الديمقراطية أن هذه الشمولية لم تقدم لنا تعويضا مؤقتا بانتصارات حاسمة اقليميا، أو بتحقيق التنمية والرخاء والتقدم العلمى والتكنولوجى فى الداخل، مع أن الأصل أن كل ذلك لا يتعارض مع الديمقراطية وحكم القانون.
هل يفسر هذا الاخفاق المتتالى الكلمات المفعمة بالشجن، التى اختتم بها سلماوى مذكراته، وجاءت كما يلى: «ربما كانت الرحلة أهم بالفعل من محطة الوصول التى رسوت عندها الآن ورست عندها البلاد، فوجدنا أنه ليس لديها ما تعطيه لنا سوى ثراء التجربة، ومشقة الرحلة ذاتها؟» أظن ذلك.
ومن السياسة فى «يوما أو بعض يوم» الى الفن والأدب، والحب، والمجتمع، وتاريخ العائلة، لابد أن أعترف لقلم محمد سلماوى بالرشاقة، والأناقة مع قدرة على عرض أعمق الأفكار، بأسهل التعبيرات، وموهبة فى رسم الصور بالكلمات، متأثرا بحبه لزوجته الرسامة الموهوبة نازلى مدكور.
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع