حين تعهد المرشح الرئاسى دونالد ترامب بإجبار حلفاء بلاده على تحمل نفقات الدفاع الأمريكى عنهم، فى أثناء حملته الانتخابية، وحين وضع هذا المبدأ موضع التطبيق لأول مرة أخيرا باشتراطه تحمل المملكة السعودية نفقات بقاء القوات الأمريكية فى سوريا، بعد أن كان قد أعلن اعتزامه سحبها قريبا.. فلربما لم يتذكر الكثيرون كتابا اشتهر كثيرا فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى، وأوائل تسعينياته للمؤرخ بول كنيدى، مع أن هذا الكتاب هو الذى يشرح حيثيات الظاهرة الترامبية، ولكن دون قصد أو تبرير أو تفهم، وأيضا ودون توقع كل هذا الرخص فى الأداء، وكل هذا التبسيط المبتذل فى تشخيص مشكلات الامبراطورية الأمريكية، واستراتيجيات المواجهة.
الكتاب يحمل عنوان «قيام وسقوط الامبراطوريات» ويخلص ــ بعد استعراض عوامل ظهور ثم اضمحلال فانهيار الامبراطوريات الكبرى عبر التاريخ ــ إلى صياغة قانون بسيط ومحكم فى آن واحد يفسر ويحتم سقوط الامبراطورية عند حدوثه، وهو أن الامبراطورية تستمر فى التوسع، كلما أدى الإنفاق فى الخارج وخاصة الانفاق العسكرى، الى ارتفاع مستوى المعيشة فى الداخل مقاسا بمعدلات النمو، ومتوسط الدخل الفردى، والعكس صحيح، وهو أن الامبراطورية تبدأ فى الانكماش ثم الاضمحلال ثم الانهيار، عندما يؤدى الانفاق فى الخارج إلى انخفاض مطرد فى مستويات المعيشة فى الداخل، مقاسة بمعدلات النمو، ومتوسط الدخل الفردى أيضا.
من المنطقى هنا أن نفترض أن هذا القانون كان قد بدأ سريانه تدريجيا على الامبراطورية الامريكية ــ كما ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية ــ قبيل عدة سنوات من ظهور كتاب بول كنيدى، وإلا لما كانت هناك حاجة لكتابته، ولما قوبل بالاهتمام الكبير الذى حظى به فى الاوساط السياسية والاكاديمية، فى كل مكان فى العالم تقريبا.
غير أن الشاهد العملى الذى لا يكذب على أن تكاليف الدور الامبراطورى الامريكى فى العالم بدأت ترهق مجتمع الداخل مبكرا هو توالى مطالبات الرسميين والمفكرين الاستراتيجيين هناك للشركاء فى حلف الأطلنطى واليابان بزيادة مخصصات الانفاق الدفاعى فى موازنات بلدانهم، وكما نذكر ففى كل مرة كانت تتزايد الضغوط الأمريكية على هؤلاء الحلفاء كانت تطلق عبارة تحذيرية، صكت خصيصا لهذا الغرض على النحو التالى: «لقد انتهى عصر الركوب المجانى».
لكن المؤكد أن أيا من الرؤساء الأمريكيين السابقين لم يقد هذه الحملات بنفسه مباشرة، كما يفعل الرئيس ترامب حاليا، ولندع جانبا فجاجة وسوقية طريقته فى الأداء، ثم جاءت نهاية الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفيتى، وكتلته الاوروبية الشرقية، وإيديولوجيته الشيوعية، لتدشن فترة استرخاء فى العلاقات عبر الاطلنطى، جرت خلالها تجربة أفكار جديدة فى السياسة الدولية، مثل النظام العالمى الجديد الذى تقوده الولايات المتحدة منفردة، والتحالفات الدولية الموسعة لغرض محدد، كما حدث فى حروب البلقان، وحرب تحرير الكويت، ولم يكن كل ذلك إلا تأجيلا لمواجهة قانون بول كنيدى، أو مراوغة له إذ إننا نعرف جميعا أن دول الخليج العربية هى التى تحملت بالكامل الفاتورة الباهظة لحرب تحرير الكويت من الغزو العراقى.
متى إذن بدأ قانون سقوط الامبراطوريات يضغط بقوة على الأمريكيين؟
بالتأكيد كانت البداية هى غزو أفغانستان وغزو العراق، ونحن لا نناقش هنا مشروعية إسقاط حكم طالبان بعد اعتداءات 11 سبتمبر الارهابية على نيويورك وواشنطن، ولا نناقش افتعال أسباب لغزو العراق، وإن كانت الدوافع الامبراطورية أوضح فى الحالة العراقية، ولكن التركيز ينصب ــ كما يظهر من السياق ــ على الآثار الاقتصادية للإنفاق العسكرى فى الخارج على مستويات المعيشة فى الداخل، والنتائج الاجتماعية والسياسية، ومن ثم الاستراتيجية لهذه الآثار.
فكما يذكر الكثيرون فإن الرئيس بوش الابن الذى قاد الحرب فى أفغانستان والعراق كان قد ورث عن سلفه بيل كلينتون فائضا كبيرا فى الموازنة العامة لأول مرة منذ سنوات طويلة، كما كان قد ورث معدل بطالة يقترب من الصفر، ولكنه سرعان ما استهلك هذا الفائض، وأعاد الموازنة إلى حالة العجز المزمن، ثم جاءت الأزمة المالية العالمية التى بدأت فى العام الأخير من حكمه من الولايات المتحدة نفسها، ليس فقط لتفاقم العجز المالى بحكم ضخ أموال حكومية لإنقاذ عشرات الشركات والمصارف، ولكن أيضا لتكتسح موجة التفاؤل التى عمت العالم كله فى العقد الأخير من القرن الماضى تحت لافتة «العولمة».
بالطبع هناك أسباب غير أمريكية المنبع لتضاؤل نصيب الولايات المتحدة من الانتاج والثروة العالميين، مثل بزوغ الصين، ونموها المطرد، وعودة التماسك لروسيا، واستئنافها لدورها «الامبراطورى» فى محيطها اللصيق، وتحرر معظم دول أمريكا اللاتينية من الهيمنة، ومن ثم من الاستغلال الاقتصادى الأمريكى، وشروع هذه الدول فى تحقيق معدلات نمو مطردة وكبيرة.
لكل هذه الأسباب داخلية وخارجية، جاءت لحظة الحقيقة، ولابد من مواجهة قانون بول كنيدى، دون تأجيل أو مراوغة.
من ناحيته اختار الرئيس الذى خلف بوش الابن.. أى الرئيس باراك أوباما سياسة تخفيض الانفاق العسكرى، بالحد من عسكرة السياسة الخارجية إلى أدنى درجة ممكنة، فرفض كل إغراءات التدخل العسكرى فى سوريا فى بداية الأزمة، وكان يمكنه أن يفعل ذلك، ويسرع بالقضاء على نظام بشار الأسد، ولكن مع التورط إلى أمد غير معلوم، وكما نعلم فلم يتأخر الحلفاء الخليجيون عن تحريضه على ذلك، كذلك فضل أوباما الوصول إلى حل دبلوماسى لمشكلة البرنامج النووى الايرانى، وقد ذكرت عدة مصادر أن الملك سلمان ملك السعودية تعهد له بتحمل تكاليف ضربة أمريكية شاملة تؤدى إلى تغيير النظام فى إيران، ولكن رد أوباما كان هو: «أن الجيش الأمريكى ليس جيش مرتزقة».
أما خلف أوباما أى دونالد ترامب، فقد اختار أن يحل مشكلته ومشكلة الامبراطورية الأمريكية مع قانون بول كنيدى بتحميل الانفاق العسكرى لمن يريد أن يدفع، لتحارب الولايات المتحدة نيابة عنه، فرأيناه فى مشهد أقرب إلى الكوميديا، يعلن أنه سيسحب قواته قريبا من سوريا، وبعد يومين يعلن أن هذه القوات ستبقى، بما أن السعودية وافقت على تحمل تكاليف بقائها، لكن ذلك ليس إلا جزءا صغيرا من الحل الذى يرتأيه الرئيس الأمريكى وفريقه لمشكلة أضرار الانفاق الامبراطورى فى الخارج على الداخل الأمريكى، إذ سبق له الحصول على تعهد باستثمارات سعودية بمقدار 400 ملياردولار فى الاقتصاد الأمريكى، والبقية تأتى من السعودية والامارات والكويت وقطر استغلالا لأوضاعهم الأمنية الحرجة، التى سيزيدها حرجا ــ بالقطع ــ انسحابه المزمع من الاتفاق النووى الدولى مع إيران.
وبالطبع تندرج حروب ترامب التجارية (الجمركية) ضد الاتحاد الأوروبى والصين فى هذا السياق نفسه.
السؤال المهم والكاشف فى نهاية هذا العرض هو: هل ستكفى هذه «الحيل» لإنقاذ الامبراطورية الأمريكية من انطباق قانون بول كنيدى؟ ولكم من السنوات؟ خاصة إذا تذكرنا أنه لا توجد مصلحة أمريكية مباشرة فى حرب موسعة ضد إيران وروسيا سواء فى سوريا أو فى لبنان، أو فى الخليج، وأن المصلحة المباشرة هنا هى سعودية / خليجية وإسرائيلية، ويرتبط بهذا السؤال علامة استفهام أخرى حول المدة التى ستطول اليها القدرة المالية لدول الخليج، بل والسؤال عن عدد السنوات التى ستمضى قبل أن يجف البترول، وينضب الغاز.
لقد كانت محدودية وشكلية ضربة الصواريخ الأمريكية ــ بمشاركة بريطانيا وفرنسا ــ الأخيرة لسوريا دليلا دامغا على أن اليد الأمريكية لم تعد طليقة فى الشرق الأوسط، كما قلنا فى الأسبوع الماضى، لكن التقارير المتحدثة عن تمويل خليجى لتكاليف هذه الضربة، وتباهى ترامب بأن السعودية ستدفع نفقات قواته الباقية السورية هما الدليل الكاشف على أن قانون سقوط (وليس السقوط نفسه بعد) الإمبراطوريات لا يعرف الاستثناء.. حتى لو كان هذا الاستثناء اسمه الولايات المتحدة الأمريكية.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع