يعتقد كثيرون داخل مصر وخارجها أن مجتمعها لم يستطع فى أية لحظة توفير البديل السياسى لنظام حكمها المستمر منذ تمكن ضباط يوليو 1952 من حسم كل الصراعات لمصلحة سلطتهم، وأن تلك هى المشكلة الرئيسية المانعة لتطور الحياة السياسية فى البلاد، ليس فقط نحو التحول الديمقراطى، ولكنها تمنع أيضا اطراد كفاءة الأداء فى الملفات الأخرى، كالتنمية الاقتصادية، وفى قلبها التصنيع، كذلك التعليم، والتدريب، ومكافحة الفساد،.. هذا طبعا فى رأى من يعتقدون أن التحول الديمقراطى ليس هو الأولوية، وأن كفاءة الأداء فى الملفات السابق ذكرها سوف تؤدى تلقائيا وتدريجيا إلى ذلك التحول.
وعلى الرغم من الاعتراف بأن أولئك القائلين بغياب البديل المجتمعى محقون تماما فى رؤيتهم هذه، كما هم محقون فى إدراك رابطة السببية بين تلك المقدمة و بين نتائجها المشار إليها توا، فإن لى ملاحظتين أستدرك بهما على هذه الرؤية، الأولى: هى أن الأصح والأفضل لمصر، أن نتحدث عن رديف لنظام الحكم بمعنى الشريك الذى يعضد ويرشد، ويضيف، وليس عن بديل، ما دمنا نتحدث عن نظام وليس عن شخص، حتى لو كان هذا الشخص هو الرئيس نفسه، بما أنه ثبت المرة تلو المرة أن تغير الرؤساء لايغير طبيعة النظام، حتى وإن أدى إلى تغيير فى قليل أو كثير من السياسات الكبرى أو الصغرى، وكذلك بما أنه من المستحيل عمليا، ومن غير المأمون تغيير النظام، مع تسليم الجميع بغياب البديل كقوة سياية منظمة تحظى بقبول مجتمعى، وتعاون مؤسسات الدولة العميقة، وتمتلك من التجارب والاطلاع ما يكفى للنجاح فى إدارة الدولة.
أما الملاحظة الثانية، على تلك الرؤية القائلة بعجز المجتمع المصرى عن توفير البديل (أو الرديف حسب تفضيلنا)، فهى أن نظام يوليو لم يكتف فقط بإعاقة أو إجهاض تكوين البديل من خارجه، أى من المجتمع بشتى الوسائل السلطوية، منذ الأيام الأولى، وحتى يومنا هذا، ولكنه كذلك عجز دائما وأبدا عن إنتاج نخبة سياسية حقيقية من داخله هو نفسه، تصنع المؤسسية والتقاليد، وتؤهل الكوادر، بمختلف مستوياتها العليا والوسطى والدنيا، لضمان الاستمرار دون صراعات حادة، ودون جمود أو تدهور، مثلما فعلت نظم سلطوية أخرى كالنظام الصينى، أو نظم سنغافورة وكوريا الجنوبية، بل وحتى إسبانيا فرانكو، وتركيا أتاتورك.. إلخ.
إن عدم وجود بديل (أو رديف) مجتمعى، وعدم توالد نخبة ذاتيا من داخل النظام هو معنى تعبير الاحتواء المزدوج للحياة السياسية المصرية، الذى عنونا به هذا المقال، فى إشارة إلى أنه اختيار واع وإرادى من جانب النظام نفسه.
وإذا كنا قد رأينا وما زلنا نرى وقائع ووسائل إجهاض كل فرصة لتكون البديل (أو الرديف المجتمعى) بمحاصرة الأحزاب والوصاية على النقابات عمالية ومهنية، وكذلك الغرف التجارية والصناعية وغيرها، حتى منظمات المجتمع المدنى الحقوقية والخيرية، فقد يلزم أن نتعرف على نماذج من سياسات ووقائع إجهاض تخلق النخبة من داخل النظام نفسه.
مثلا عندما ذهب جمال عبدالناصر لزيارة زميله القديم فى مجلس قيادة الثورة جمال سالم فى مرض الموت، فإن سالم أراد فى لحظة صفاء روحى ــ يلهمها اقتراب الأجل ــ أن ينصح ناصرا بما يراه إنقاذا للبلاد من سلبيات الحكم الذى أقامه الضباط (وهو منهم) فقال: «يا جمال تذكر أنك لن تظل تحكم مصر وأنت فى قبرك».. والمعنى هو أنك يا جمال عبدالناصر سوف تموت آجلا أو عاجلا.. فأقم نظاما مؤسسيا لا يعتمد كلية على شخص الرئيس، ودع هذا النظام يعمل فيصنع النخبة والقيادات السياسية.
وعندما راحت سكرة السلطة.. وجاءت «الفكرة» مع هزيمة 1967، وقيل إن عبدالناصر أدرك العوار فى نظامه، وتحدث عن السماح بقيام حزب معارض «بقيادة زميليه القديمين فى مجلس قيادة الثورة عبداللطيف البغدادى وكمال الدين حسين اللذين استقالا اختلافا مع الرئيس، فإن شيئا من ذلك لم يحدث، بل وظل عبدالناصر ممسكا بكل أطراف السلطة، وحريصا على تحجيم اتحاده الاشتراكى، ومنظمة الشباب التى كونها بنفسه.
وجاء أنور السادات لا ليجهض بنفسه تجربة التعددية الحزبية، الذى كان هو من بدأها، ولكن ليتخلص أولا بأول من الرجال الأقوياء فى نظامه تباعا كعزيز صدقى وعبدالعزيز حجازى
وممدوح سالم، ومصطفى خليل، بل وصهره سيد مرعى، مضافا إليهم الفريق سعد الشاذلى، والمشير الجمسة، بل ومحمد حسنين هيكل.
كما كان يغير ويبدل فى رجال حزبه الوطنى كلما لاح أن أحدا منهم يأخذ المسألة جدا، فضحى مثلا بفكرى مكرم عبيد، ثم منصور حسن.. إلخ، ولم يثبت قط أن أيا من قراراته الكبرى نوقش قبلا أو بعداــ ولا نقول أقر ــ فى المستويات القيادية للحزب، فضلا عن المستويات الأدنى.
كل ذلك كان إجهاضا سلطويا لفرص تكون نخبة سياسية من داخل النظام نفسه، ليظل النظام هو الرئيس، والرئيس هو النظام.
أما فى عهد حسنى مبارك، ورغم كل الضجيج حول الحزب الوطنى الحاكم، فيكفى فقط أن نتذكر أن الدكتور يوسف والى الأمين العام لهذا الحزب ونائب رئيس الوزراء، هو صاحب تعبير «إننا جميعا سكرتارية للرئيس»، وبالطبع فالسكرتيرون شىء، والنخبة السياسية شئ آخر تماما.
أضيف إلى عبارة يوسف والى ما سمعته من المرحوم محمود عبدالعزيز الرئيس الأسبق والأشهر للبنك الأهلى المصرى، ولاتحاد المصارف العربية، والذى كان مقربا جدا من رئيس الوزراء آنذاك عاطف صدقى، فقد خلا منصب رئيس أحد البنوك العامة الكبيرة، وتطوع محمود عبدالعزيز بترشيح قيادة مصرفية رأى أنها جديرة بالمنصب: فرد عليه صدقى ضاحكا بحسرة ومستنكرا: جرى إيه يا محمود.. هو أنا أقدر أعين عامل نظافة فى بنك من غير إذن الرئيس؟!
ندرك بالطبع أن هذه مبالغة من عاطف صدقى، ولكنه اضطر إليها لكى يذكر محدثه بأن القانون غير المكتوب ينص على أن رئيس الوزراء لا يستطيع اتخاذ أى قرار فى نطاق صلاحياته الدستورية دون استئذان الرئيس، فإذا كان العرف السلطوى من هذا النوع أقوى من القانون ومن الدستور، فإنه يصبح من المنطقى أن يعجز النظام الحاكم نفسه عن صنع نخبته السياسية، فى حين تنجح السلطوية فى تحقيق الاحتواء المزدوج للحياة السياسية من طرفيها.. المجتمع ونظام الحكم.
يقال عادة إن الخشية من ظهور مراكز جديدة للقوى، بما يؤدى إلى نشوب صراعات داخل النظام على السلطة، على غرار ما كان بين عبدالحكيم عامر وجمال عبدالناصر، وعلى غرار ما حدث من رجال على صبرى وشعراوى جمعة فى مقتبل رئاسة أنور السادات.. يقال إن الخشية من نشوب مثل هذه الصراعات هى السبب الأساسى فى حرص الرؤساء على عدم وجود رجال أقوياء بجانبهم، وعلى عدم تفعيل القواعد الدستورية، وترسيخ التقاليد التى تحد من نفاذ الإرادة المنفردة للرئيس، أو تحد من هيمنته على كل كبيرة و صغيرة، ولكن من ينكر أنه ظهرت أيضا مراكز قوة تحت سلطة أنور السادات، وتحت سلطة حسنى مبارك (بعضها بوليسى، وبعضها عائلى، وبعضها الثالث فاسد ومفسد؟!) مما يثبت أن النظام الفردى المغلق هو الذى يخلق مراكز القوى، وليس النظام المؤسسى المفتوح، ولو نسبيا.
وهل هناك من ينكر أن المصريين عاشوا منذ البدايات الأولى لنظام يوليو دون أن يطمئنوا إلى أن نظامهم السياسى سينتقل بهم
وببلادهم من رئيس إلى آخر دون مفاجآت أو اضطرابات وربما صراعات؟!
أليست إجابة هذا السؤال كافية وحدها لإثبات أن ما يتهم به المجتمع فى مصر من العجز عن توفير البديل السياسى ليس هو كل الحقيقة، ولا حتى نصفها، وأن الأولى هو تحميل نظام الحكم نفسه مسئولية العجز المزمن عن تكوين نخبته السياسية من داخله، فضلا عن تحمله المسئولية عن إجهاض البديل أو الرديف المجتمعى.
عن الشروق القاهريه