توقيت القاهرة المحلي 04:55:14 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الاحتواء الداخلى المزدوج

  مصر اليوم -

الاحتواء الداخلى المزدوج

بقلم - عبد العظيم حماد

يعتقد كثيرون داخل مصر وخارجها أن مجتمعها لم يستطع فى أية لحظة توفير البديل السياسى لنظام حكمها المستمر منذ تمكن ضباط يوليو 1952 من حسم كل الصراعات لمصلحة سلطتهم، وأن تلك هى المشكلة الرئيسية المانعة لتطور الحياة السياسية فى البلاد، ليس فقط نحو التحول الديمقراطى، ولكنها تمنع أيضا اطراد كفاءة الأداء فى الملفات الأخرى، كالتنمية الاقتصادية، وفى قلبها التصنيع، كذلك التعليم، والتدريب، ومكافحة الفساد،.. هذا طبعا فى رأى من يعتقدون أن التحول الديمقراطى ليس هو الأولوية، وأن كفاءة الأداء فى الملفات السابق ذكرها سوف تؤدى تلقائيا وتدريجيا إلى ذلك التحول.

وعلى الرغم من الاعتراف بأن أولئك القائلين بغياب البديل المجتمعى محقون تماما فى رؤيتهم هذه، كما هم محقون فى إدراك رابطة السببية بين تلك المقدمة و بين نتائجها المشار إليها توا، فإن لى ملاحظتين أستدرك بهما على هذه الرؤية، الأولى: هى أن الأصح والأفضل لمصر، أن نتحدث عن رديف لنظام الحكم بمعنى الشريك الذى يعضد ويرشد، ويضيف، وليس عن بديل، ما دمنا نتحدث عن نظام وليس عن شخص، حتى لو كان هذا الشخص هو الرئيس نفسه، بما أنه ثبت المرة تلو المرة أن تغير الرؤساء لايغير طبيعة النظام، حتى وإن أدى إلى تغيير فى قليل أو كثير من السياسات الكبرى أو الصغرى، وكذلك بما أنه من المستحيل عمليا، ومن غير المأمون تغيير النظام، مع تسليم الجميع بغياب البديل كقوة سياية منظمة تحظى بقبول مجتمعى، وتعاون مؤسسات الدولة العميقة، وتمتلك من التجارب والاطلاع ما يكفى للنجاح فى إدارة الدولة.

أما الملاحظة الثانية، على تلك الرؤية القائلة بعجز المجتمع المصرى عن توفير البديل (أو الرديف حسب تفضيلنا)، فهى أن نظام يوليو لم يكتف فقط بإعاقة أو إجهاض تكوين البديل من خارجه، أى من المجتمع بشتى الوسائل السلطوية، منذ الأيام الأولى، وحتى يومنا هذا، ولكنه كذلك عجز دائما وأبدا عن إنتاج نخبة سياسية حقيقية من داخله هو نفسه، تصنع المؤسسية والتقاليد، وتؤهل الكوادر، بمختلف مستوياتها العليا والوسطى والدنيا، لضمان الاستمرار دون صراعات حادة، ودون جمود أو تدهور، مثلما فعلت نظم سلطوية أخرى كالنظام الصينى، أو نظم سنغافورة وكوريا الجنوبية، بل وحتى إسبانيا فرانكو، وتركيا أتاتورك.. إلخ.

إن عدم وجود بديل (أو رديف) مجتمعى، وعدم توالد نخبة ذاتيا من داخل النظام هو معنى تعبير الاحتواء المزدوج للحياة السياسية المصرية، الذى عنونا به هذا المقال، فى إشارة إلى أنه اختيار واع وإرادى من جانب النظام نفسه.

وإذا كنا قد رأينا وما زلنا نرى وقائع ووسائل إجهاض كل فرصة لتكون البديل (أو الرديف المجتمعى) بمحاصرة الأحزاب والوصاية على النقابات عمالية ومهنية، وكذلك الغرف التجارية والصناعية وغيرها، حتى منظمات المجتمع المدنى الحقوقية والخيرية، فقد يلزم أن نتعرف على نماذج من سياسات ووقائع إجهاض تخلق النخبة من داخل النظام نفسه.

مثلا عندما ذهب جمال عبدالناصر لزيارة زميله القديم فى مجلس قيادة الثورة جمال سالم فى مرض الموت، فإن سالم أراد فى لحظة صفاء روحى ــ يلهمها اقتراب الأجل ــ أن ينصح ناصرا بما يراه إنقاذا للبلاد من سلبيات الحكم الذى أقامه الضباط (وهو منهم) فقال: «يا جمال تذكر أنك لن تظل تحكم مصر وأنت فى قبرك».. والمعنى هو أنك يا جمال عبدالناصر سوف تموت آجلا أو عاجلا.. فأقم نظاما مؤسسيا لا يعتمد كلية على شخص الرئيس، ودع هذا النظام يعمل فيصنع النخبة والقيادات السياسية.

وعندما راحت سكرة السلطة.. وجاءت «الفكرة» مع هزيمة 1967، وقيل إن عبدالناصر أدرك العوار فى نظامه، وتحدث عن السماح بقيام حزب معارض «بقيادة زميليه القديمين فى مجلس قيادة الثورة عبداللطيف البغدادى وكمال الدين حسين اللذين استقالا اختلافا مع الرئيس، فإن شيئا من ذلك لم يحدث، بل وظل عبدالناصر ممسكا بكل أطراف السلطة، وحريصا على تحجيم اتحاده الاشتراكى، ومنظمة الشباب التى كونها بنفسه.

وجاء أنور السادات لا ليجهض بنفسه تجربة التعددية الحزبية، الذى كان هو من بدأها، ولكن ليتخلص أولا بأول من الرجال الأقوياء فى نظامه تباعا كعزيز صدقى وعبدالعزيز حجازى

وممدوح سالم، ومصطفى خليل، بل وصهره سيد مرعى، مضافا إليهم الفريق سعد الشاذلى، والمشير الجمسة، بل ومحمد حسنين هيكل.

كما كان يغير ويبدل فى رجال حزبه الوطنى كلما لاح أن أحدا منهم يأخذ المسألة جدا، فضحى مثلا بفكرى مكرم عبيد، ثم منصور حسن.. إلخ، ولم يثبت قط أن أيا من قراراته الكبرى نوقش قبلا أو بعداــ ولا نقول أقر ــ فى المستويات القيادية للحزب، فضلا عن المستويات الأدنى.

كل ذلك كان إجهاضا سلطويا لفرص تكون نخبة سياسية من داخل النظام نفسه، ليظل النظام هو الرئيس، والرئيس هو النظام.

أما فى عهد حسنى مبارك، ورغم كل الضجيج حول الحزب الوطنى الحاكم، فيكفى فقط أن نتذكر أن الدكتور يوسف والى الأمين العام لهذا الحزب ونائب رئيس الوزراء، هو صاحب تعبير «إننا جميعا سكرتارية للرئيس»، وبالطبع فالسكرتيرون شىء، والنخبة السياسية شئ آخر تماما.

أضيف إلى عبارة يوسف والى ما سمعته من المرحوم محمود عبدالعزيز الرئيس الأسبق والأشهر للبنك الأهلى المصرى، ولاتحاد المصارف العربية، والذى كان مقربا جدا من رئيس الوزراء آنذاك عاطف صدقى، فقد خلا منصب رئيس أحد البنوك العامة الكبيرة، وتطوع محمود عبدالعزيز بترشيح قيادة مصرفية رأى أنها جديرة بالمنصب: فرد عليه صدقى ضاحكا بحسرة ومستنكرا: جرى إيه يا محمود.. هو أنا أقدر أعين عامل نظافة فى بنك من غير إذن الرئيس؟!

ندرك بالطبع أن هذه مبالغة من عاطف صدقى، ولكنه اضطر إليها لكى يذكر محدثه بأن القانون غير المكتوب ينص على أن رئيس الوزراء لا يستطيع اتخاذ أى قرار فى نطاق صلاحياته الدستورية دون استئذان الرئيس، فإذا كان العرف السلطوى من هذا النوع أقوى من القانون ومن الدستور، فإنه يصبح من المنطقى أن يعجز النظام الحاكم نفسه عن صنع نخبته السياسية، فى حين تنجح السلطوية فى تحقيق الاحتواء المزدوج للحياة السياسية من طرفيها.. المجتمع ونظام الحكم.

يقال عادة إن الخشية من ظهور مراكز جديدة للقوى، بما يؤدى إلى نشوب صراعات داخل النظام على السلطة، على غرار ما كان بين عبدالحكيم عامر وجمال عبدالناصر، وعلى غرار ما حدث من رجال على صبرى وشعراوى جمعة فى مقتبل رئاسة أنور السادات.. يقال إن الخشية من نشوب مثل هذه الصراعات هى السبب الأساسى فى حرص الرؤساء على عدم وجود رجال أقوياء بجانبهم، وعلى عدم تفعيل القواعد الدستورية، وترسيخ التقاليد التى تحد من نفاذ الإرادة المنفردة للرئيس، أو تحد من هيمنته على كل كبيرة و صغيرة، ولكن من ينكر أنه ظهرت أيضا مراكز قوة تحت سلطة أنور السادات، وتحت سلطة حسنى مبارك (بعضها بوليسى، وبعضها عائلى، وبعضها الثالث فاسد ومفسد؟!) مما يثبت أن النظام الفردى المغلق هو الذى يخلق مراكز القوى، وليس النظام المؤسسى المفتوح، ولو نسبيا.

وهل هناك من ينكر أن المصريين عاشوا منذ البدايات الأولى لنظام يوليو دون أن يطمئنوا إلى أن نظامهم السياسى سينتقل بهم

وببلادهم من رئيس إلى آخر دون مفاجآت أو اضطرابات وربما صراعات؟!

أليست إجابة هذا السؤال كافية وحدها لإثبات أن ما يتهم به المجتمع فى مصر من العجز عن توفير البديل السياسى ليس هو كل الحقيقة، ولا حتى نصفها، وأن الأولى هو تحميل نظام الحكم نفسه مسئولية العجز المزمن عن تكوين نخبته السياسية من داخله، فضلا عن تحمله المسئولية عن إجهاض البديل أو الرديف المجتمعى.

عن الشروق القاهريه

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاحتواء الداخلى المزدوج الاحتواء الداخلى المزدوج



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon