بقلم - عبد العظيم حماد
فى يوم 17 مارس من العام الماضى كتبنا هنا تحت عنوان «حرب ستيف بانون الحتمية فى الشرق الأوسط» أن الإدارة الأمريكية الجديدة تؤمن بوجوب دخول الولايات المتحدة فى حرب كبيرة، وأنها حددت ثلاث جبهات محتملة لهذه الحرب، هى: أولا: بحر الصين، أى ضد كوريا الشمالية، وربما الصين أيضا، وثانيا: بحر البلطيق، أى ضد روسيا، وثالثا: الخليج والشرق الأوسط، أى ضد إيران وحلفائها من دول وميليشيات، وكذلك ضد تنظيمات الإسلام السنى المتطرفة، كداعش ونظرائها.
فى ذلك المقال رجحنا أن يختار صناع القرار الأمريكى منطقتنا، لأنها الأكثر رخاوة، والأكثر التهابا، ولعدم امتلاك الخصوم المستهدفين أسلحة دمار شامل، ولوجود محرضين إقليميين مؤثرين فى واشنطن، مثل إسرائيل والسعودية.
ومن باب استيفاء العرض تجدر الإشارة إلى أن ستيف بانون كبير المخططين الاستراتيجيين فى البيت الأبيض فى ذلك الوقت، وزعيم اليمين الشعبوى الأمريكى يمد نشاطه التبشيرى إلى أوروبا الآن، وأنه استمد عقيدته المشئومة تلك من كتاب من أمهات الكتب، للمؤرخين الكبيرين نيل هاو، ووليم شتراوس، هذا الكتاب الصادر عام 1997 يطرح نموذجا تفسيريا للتحولات الكبرى فى التاريخ الأمريكى يفهم منه أن التحول يقع كل 90 عاما، ويستغرق عقدين من الزمان، تتخللهما حرب كبيرة، وأن التحول الحالى بدأ منذ عام 2008.
على الرغم من أن البروفسير هاو تبرأ مما وصفه برؤية بانون الظلامية للتاريخ وللعالم، كما تبرأ من تعسف الأخير فى استنتاج حتمية الحرب خلال العقد الحالى من كتابه المشار اليه، قائلا إنه وشريكه المتوفى تحدثا عن الحرب كإمكانية محتملة فقط، وكذلك على الرغم من أن بانون ترك منصبه فى الصيف الماضى، فإن دوره فى الدفع نحو «حرب كبرى» لم يتوقف لدى أجهزة صنع السياسة، ومراكز الفكر الاستراتيجى، وأيضا لدى الرأى العام، مثله فى ذلك مثل ريتشارد بيرل الملقب بأمير الظلام فى إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، الذى ظل مؤثرا بقوة بعد مغادرة منصب رئيس مجلس التخطيط الاستراتيجى فى البنتاجون، وليس ذلك الا لأن كلا منهما (أى بانون وبيرل) يمثل ويقود تيارا أيديولوجيا قويا، وجماعات سياسية نافذة، كانت تسمى فى عهد بوش الابن بالمحافظين الجدد، وتعرف الآن فى عهد ترامب باليمين الشعبوى، وفى الحالتين فإن أفكار ومزاج هذه الجماعات تتطابق مع أفكار ومزاج ساكن البيت الأبيض وأركان إدارته، وهو ما تعزز فى حالة الرئيس ترامب بالتغييرات الأخيرة فى مناصب وزير الخارجية ومدير المخابرات المركزية، ومستشار الأمن القومى.
كان ذلك هو الفصل الأول فى الرواية التى يقوم فيها بانون بدور الأب الروحى للحرب المقبلة فى الشرق الأوسط، أما الفصل الثانى فقدمته مجلة «ذا نيويوركر» فى تقرير مستفيض حول زيارة الأمير محمد بن سلمان ولى العهد السعودى الأخيرة والمطولة للولايات المتحدة، وهو تقرير يصرح كاتبه ديكستر فيلينكس منذ البداية، بأنه يستقى معظم معلوماته وتقديراته من ستيف بانون ولا أحد غيره، وخلاصته أن جاريد كوشنر مسئول الشرق الأوسط فى البيت الأبيض، وزوج ابنة الرئيس الأمريكى يتبنى الرؤية «البانونية» نفسها بالكامل فى المنطقة، ويضيف نقلا عن الرجل «أن الشرق الأوسط والخليج هما المنطقتان أو الموضوعان الوحيدان اللذان لم يحدث حولهما أى خلاف بينى وبين كوشنر، على الرغم من أننا اختلفنا حول كل شىء آخر» ثم ينتقل كاتب تقرير «ذا نيويوركر» خطوة أخرى فيقول إن كوشنر وطد علاقة تفاهم قوية مع بن سلمان حول معظم قضايا الشرق الأوسط والخليج، وأنه يثق فى صلابة وتصميم ولى العهد السعودى.
إذن فقد أصبحت حرب ستيف بانون، وجاريد كوشنر الكبرى فى الشرق الأوسط أقرب احتمالا الآن من أى وقت مضى، طبقا لهذا التحليل، ولكن هل ستنفجر هذه الحرب بمواصفاتها سابقة التجهيز، من خلال الأزمة الحالية حول استخدام أسلحة كيماوية فى مدينة دوما السوريا؟ أم سيبقى الرد الأمريكى محدودا فى إطار تثبيت الخط الأحمر بحظر استخدام هذا النوع من الأسلحة من جانب النظام السورى، حتى وإن طال أمد القصف الأمريكى، وازدادت كثافته؟
لا أحد بالطبع يملك إجابة قاطعة إلا صناع القرار الأمريكى وشركاؤهم فى السعودية وإسرائيل.
غير أن محاذير الحرب الكبرى، وخاصة مع استخدام قوات برية تبقى كثيرة، ولا يستهان بها، منها خطر المواجهة الأمريكية الروسية، وخطر اندلاع حرب موازية بين إسرائيل وحزب الله، حتى وإن كان الإسرائيليون يتحرقون رغبة فى الخلاص من كابوس هذا الحزب، ومنها ثالثا احتمال فتح جبهات فى الخليج وبحر العرب وباب المندب، بما ينطوى عليه ذلك من آثار مدمرة على الاقتصاد والتجارة الدوليين.
ليست هذه فقط هى الأسباب المرجحة لبقاء الضربة الأمريكية المقبلة لسوريا فى إطار محدود، إذ تنذر دروس الخبرة الأمريكية فى حروب ما بعد الحرب العالمية الثانية بالفشل السياسى، وربما بالنتائج العكسية على طول الخط، فهذا ما حدث فى فيتنام، وفى غزو كل أفغانستان والعراق، وفى الحالتين الأخيرتين كانت إيران هى الكاسب الأكبر من الغزو الأمريكى.
ولا تكتمل دروس الخبرة الأمريكية السلبية فى حروب ما بعد الحرب العالمية الثانية الا بالانتباه إلى أن أكبر وأطول حرب كسبتها الولايات المتحدة هى تلك التى لم تطلق فيها رصاصة واحدة، وهى الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتى.. القوة العظمى الثانية فى العالم، وضد الأيديولوجية الشيوعية، الأكثر جاذبية فى وقتها لكتل هائلة من البشر على امتداد القارات الست، وفى هذا السياق نفسه يمكن القول إن الولايات المتحدة كسبت معركة حصر التوسع الشيوعى من الصين فى جنوب شرق آسيا بعد انسحابها العسكرى من فيتنام، واستخدام الوسائل السلمية، وفى مقدمتها الانفتاح على الصين نفسها، والتعاون فى ميادين التنمية الاقتصادية والتجارة.
عند هذا الحد من التحليل يكون السؤال الأخير والأهم هو: أى طراز من الرجال هم صناع الاستراتيجية والقرار فى الولايات المتحدة الآن.. أى طراز من الرجال هم ترامب وكوشنر وبولتون وبومبيو؟! هل هم من طراز بوش الابن ورجاله.. دونالد رامسفيلد وريتشارد بيرل وبول فولفويتز وإليوت أبرمز الأيديولوجيين، ضيقى الأفق، المغرورين بغطرسة القوة، ممن تحركهم عقيدة التفوق العنصرى والثقافى، وأوهام المشروع الإمبراطورى؟ أم هم من طراز بوش الأب ورجاله.. جيمس بيكر وبيرينت سكوكروفت وغيرهم.. المتحررين من سطوة الأيديولوجية، وغطرسة القوة، الذين فهموا أن عصر الإمبراطوريات ولى وانقضى، فلم يغرهم الانتصار على صدام حسين فى الكويت بغزو العراق مثلا؟!
أخشى أن الإجابة لا تبشر بخير.
بالمناسبة لماذا لم تُدْلِ أى عاصمة عربية غير خليجية برأيها فى الخطط الأمريكية نحو سوريا؟ ولماذا تلوذ الجامعة العربية بالصمت؟
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع