هذا هو التوصيف الأكثر دقة للأيام التى تلت إعلان الفريق سامى عنان نية المنافسة على منصب رئيس الجمهورية، حتى يوم الاعتداء الأثيم على المستشار هشام جنينة، مرورا بيوم إعلان القبض على الفريق عنان، دون أن يعنى ذلك بالطبع أن كل من وجموا، ثم صمتوا فى مواجهة هذه الأحداث من عموم المصريين – ولا أقول من النخبة المسيسة – كانوا مؤيدين لعنان، ولرهانه، ولرجاله، الذين من بينهم المستشار جنينة، بل إن كثيرين من الصامتين الواجمين هم من مؤيدى الرئيس السيسى بوضوح.
الوجوم الذى ران على الوجوه، والصمت الذى أمسك الألسن فى المقاهى الشعبية، وفى نوادى ومنتديات الطبقة الوسطى، وفى لقاءات المثقفين وفى وسائل النقل، لهما إذن تفسير لا ينبع من حسابات التأييد أو المعارضة.
ربما يكمن بعض التفسير فى الطبيعة المفاجئة لهذه التطورات الدرامية، وربما يكمن جزء آخر منه (أى من التفسير) فى شىء من الخوف من غضب السلطات، ولكن المؤكد أن الجزء الأكبر يتمثل فى شعور قائم على الحدس بالتوجس والاشفاق من المستقبل.
يعلم الكثيرون أن الحدس قد يكون أحيانا مصدرا لا يخطئ للحكم على الأمور، دون حيثيات مفصلة، ونعرف أيضا أن مدرسة فلسفية شهيرة هى مدرسة الفيلسوف الفرنسى هنرى برجسون تعتبر الحدس هو المصدر الأصح لكل معرفة، غير أنى أعرف بصفة شخصية أننى سبق وأن رأيت أياما مماثلة من الصمت والوجوم فى تاريخ مصر القريب جدا، وكان الحدس فيها هو أيضا سيد الموقف.
من تلك الأيام الصباح التالى لاعلان النتائج النهائية لانتخابات مجلس الشعب عام 2010، فقد رأيت الذهول نفسه فى العيون، وأمارات الحيرة والتوجس على الوجوه، فى حين عقد الصمت ألسنة الجميع، انتظارا لأن يبدأ أحد الحديث دون جدوى، حتى التقيت بعد سويعات بالصدفة بقطب من أقطاب أمانة جمال مبارك لسياسات الحزب الوطنى فى مكان هادئ وشبه خاص، لأطالع فى وجهه نظرات الذهول نفسها، وأمارات الحيرة والتوجس عينها، إلا أنه كان بيننا قدر من الثقة المتبادلة يكفى لكى يرد على سؤالى عن رأيه فى نتائج الانتخابات قائلا: «إنها كارثة.. إنه لعب عيال.. فكيف تطرد كل المعارضين أو المنافسين إلى الشارع على هذا النحو الفج، فتوحدهم ضدك، وكأنك تقول لهم اضربوا رءوسكم فى الحائط، فنحن ماضون إلى ما تعرفون، وما نعرف.. أى إلى مبايعة جمال مبارك رئيسا؟!». ثم أردف قائلا: «الله وحده يعلم ماذا سيحدث، ولكن حدسى يقول لى إن الدولة العميقة الرافضة لتوريث الحكم لجمال مبارك ستجد الآن البيئة الشعبية والسياسية (المستعدة للحركة) لوأد المشروع فى مهده».
بالطبع لم أختلف مع الرجل، وما كان لى أن أختلف معه ولو على كلمة واحدة مما قال.. و كان ما كان بعد شهرين أو أكثر قليلا، ونشبت ثورة يناير.
يوم آخر من أيام الصمت والوجوم كان نهار إعلان نتيجة جولة الإعادة لانتخابات الرئاسة عام 2012 بين مرشح الإخوان محمد مرسى، وبين الفريق أحمد شفيق، وكما نتذكر فقد طال انتظار إعلان هذه النتيجة قبل يوم إعلانها، بل وطال الانتظار فى ذلك اليوم نفسه، وما إن أعلن فوز مرسى حتى تحول الترقب إلى ذهول.. فوجوم.. فصمت، فمغادرة المقاعد دون هدف محدد حيث كنت أتابع مع أصدقاء ضمن متابعين كثيرين، وحدث مثل ذلك فى بقية المقاهى والنوادى وأماكن العمل والمنازل، وفقا لنتائج استطلاعات سريعة أجريتها لنفسى هاتفيا بدافع الفضول الصحفى.
كان الصمت الواجم، أو الوجوم الصامت هذه المرة يعود إلى تمزق ضمير المصريين (غير المنتمين للإخوان وحلفائهم) ما بين التهديد بإحراق البلد إذا أعلن فوز شفيق لحرمان المرشح الإخوانى مما قالوا إنه فوز مستحق، وما بين الحدس بالفشل الذريع المتوقع للإخوان، والخوف من أن يفرضوا بقوة السلطة تغييرات عميقة فى أساليب حياة المواطنين، وتوقع نشوب صراع سريع بينهم، وبين القوى المدنية، والدولة العميقة..
مرة أخرى لم يكذب الحدس العام.. وجرى ما جرى وصولا إلى يومى 30 يونيو، و3 يوليو عام 2013، وما بعدهما من نيران ودماء، وصولا إلى حالة الاحتكار السلطوى الاقصائى الحالية.
فى قصة عنان وجنينة فإن أسباب الصمت والوجوم مختلفةو ملتبسة، وكذلك فإن الحدس مضطرب.
فهناك أولا اشفاق عام من أثار سلبية محتملة للاستقطاب السياسى بين رئيس فى المنصب ينتمى إلى القوات المسلحة، وبين منافس له ينتمى هو الآخر إليها ــ ووصل إلى أعلى مناصبها ــ على وحدة المؤسسة نفسها، ولنقرر بصراحة هنا إن وحدة القوات المسلحة هى أغلى وأقوى أرصدة المصريين الوطنية، وإن أى خطر على هذه الوحدة هو أحرم الحرام فى الضمير الوطنى المصرى الجمعى، ولا شك أن منافسة انتخابية شرسة بين رجلين من هذا الطراز كان من شأنها أن تفتح ملفات، وتقحم موضوعات قد تمس تلك الوحدة المقدسة، ولذلك كان تدارك هذا الخطر هو أحد أهم نقاط بيان القوات المسلحة برفض ترشح عنان.
لكن ذلك، ورغم نبل الهدف، وأهميته فى هذه اللحظة من تاريخ مصر لا ينفى أن الشعور العام أصيب بصدمة من جراء ما حدث، ثم تضاعفت الصدمة، وتحولت إلى ذهول ثم وجوم وصمت من الاعتداء على المستشار جنينة بالطريقة التى جرى بها، وبالتكييف الرسمى الأولى للجريمة، إذ هنا تزيُد لا لزوم له فى توقع الخطر من الرجل، فضلا عن فجاجة العملية، بما لايليق بأية دولة من دول العالم الأحدث عمرا، والأقل عراقة، فما بالنا بمصر.
يبقى وجه آخر وأخير للالتباس فى قصة عنان وجنينة كيوم من أيام الصمت والوجوم، وهو أن رهانهما السياسى للترشح لمنصب رئيس الجمهورية ونائبه هو فى الأصل تعبير عن استحقاق تاريخى آن لمصر أن تحصل عليه، وهو انتخابات رئاسية مفتوحة للمنافسة الحرة الشريفة بين البرامج والأولويات، بحيث لا يبقى هذا المنصب الأهم امتيازا أبديا غير منازع لمن وصل إليه، ولو بإجماع شعبى، وهذا الاستحقاق ليس نظريا بقدر ما هو مطلب لتيار عريض من القوى السياسية والرأى العام، بل إنه مطلب كثيرا ما شعر النظام السياسى السلطوى نفسه بإلحاحه، ومن دلائل ذلك حرص الرئيس السادات فى بداية حكمه على تحديد الفترات الرئاسية بفترتين فقط فى دستور 1971، قبل أن ينقلب هو نفسه ويعدل الدستور، ومن ذلك أيضا تعهد حسنى مبارك بأن لا يبقى فى الحكم سوى مدتين قبل أن يحنث بوعده، وكذلك جميع النصوص الدستورية التالية لثورة يناير حول مدد الرئاسة، باعتبار أن التداول السلمى للسلطة كان أحد أهم محركات ومطالب تلك الثورة.
لذا فإن صمت ووجوم عموم المصريين كرد فعل أولى على كل فصول قصة عنان
وجنينة يكمن وراءهما أيضا حدس بأن الأوضاع ليست على ما يرام، وأننا لم نصل بعد إلى الصيغة القابلة للاستمرار فى الحكم والسياسة، ومن ثم فهناك ما يدعو للقلق، حتى وإن لم يعرفوه على وجه الدقة واليقين.
لكن ما نعرفه نحن ويعرفه كثيرون غيرنا أنه فى الوقت الذى يجب فيه الحرص.. كل الحرص على وحدة قواتنا المسلحة، فإن ذلك لا يعنى بالضرورة مصادرة فرص التطور السياسى السلمى نحو الأفضل حقوقيا وديمقراطيا وتنمية واستقرارا حقيقيا.
نقلا عن الشروق القاهرية