أى المداخل هو الأكثر ملاءمة ومباشرة لفهم الأزمة الاجتماعية والسياسية العامة فى أوروبا، والمتكررة بأنماط وتعبيرات مختلفة من هذه الدولة إلى تلك، وصولا إلى أزمة «السترات الصفراء» فى فرنسا، بما يعلق عليها من آمال وينطلق منها من توقعات حتى إيجاد مخرج من تلك الأزمة العامة أو الأزمة الأم؟!
وسط شبكة المداخل العديدة المتفاعلة فيما بينها من قومى وعنصرى، وطبقى، وما يتعلق ببطء النمو الاقتصادى أو هجرة الملونين، أو بواقع ومستقبل تجربة الاتحاد الأوروبى، يبدو لى أن المدخل الأكثر ملاءمة ومباشرة هو تقويم تطورات نموذج دولة الرفاه الاجتماعى بما حققه من إنجازات، وما تردى فيه من عثرات.
هذا النموذج الذى يسمى أيضا بدولة السوق الاجتماعية هو ابتكار وتطبيق أوروبى خالصان، وبامتياز، وقد ظهر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، بقيادة أحزاب الديمقراطية الاجتماعية، أو بإلهامها، وأمكنه تسوية الصراعات الكبرى، التى استغرقت التاريخ الأوروبى منذ الثورة الصناعية، والثورة الفرنسية الكبرى، إذ أمكنه تخفيف حدة الصراع الطبقى، ثم تحييده بالكامل على أرض الواقع، ليبقى محفوظا فى صفحات الكتب كمرجع وحكم على العلاقات الصناعية، أى العلاقة بين العمل ورأس المال.
كذلك أمكن لنموذج دولة السوق الاجتماعية المرتبط ارتباطا عضويا بمشروع الاندماج الاقتصادى الاوروبى ــ من سوق مشتركة إلى جماعة أوروبية إلى اتحاد ــ تجميد الصراعات القومية، وخلافات الحدود بين أعضائه إلى ما لا نهاية منظورة حتى هذه اللحظة.. كل ذلك أدى إلى اطراد النمو الاقتصادى، وتراكم الثروات، والانسحاب من المستعمرات السابقة دون انهيار الاقتصاديات الأوروبية، ثم أدى من الناحية السياسية إلى اكتمال عصر الجماهير بتمكين كل مواطن (فرد) من المشاركة فى القرار السياسى بالانتخاب ومن خلال قوة الرأى العام، وهو ما أدى بدوره إلى الدفعة الأخيرة والكبرى (حتى الآن) لاستكمال مسيرة الحداثة، بفضل ثورة الطلبة عام 1968، خاصة ما يتعلق بدور وحقوق المرأة، وليس فقط تحرير العلاقة الجسدية (كما يركز البعض عندنا)، وكذلك دور الشباب فى الحياة السياسية، وهنا لا بد من تذكر أن هذا الدور «الشبابى» أنهى حرب فيتنام، وفرض الوفاق بين الشرق والغرب، وألهم الانشقاق فى المجتمعات الشيوعية وحطم سور برلين وصولا إلى نهاية الحرب الباردة، وما ترتب على ذلك من تحولات جذرية فى أوروبا والعالم.
كان نموذج دولة الرفاه الاجتماعى يقوم على فلسفة التوزيع العادل للدخول بين أطراف عملية الانتاج، دون مصادرة المنافسة العادلة وحرية المبادرة والمشروع الخاص، بما توفره من حوافز للمخاطرة والابتكار، وكفاءة الإدارة، وكانت السياسات التطبيقية تشتمل على الضرائب التصاعدية على الدخول الفردية، والأرباح الصناعية والتجارية، وتأميم المرافق والشركات «الاستراتيجية»، وتحفيز المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والشركات المساهمة، مقابل دخول الدولة طرفا فى مفاوضات واتفاقيات الأجر الجماعى، وفى توفير فرص العمل، وضمان حد أدنى للدخل، فضلا عن التأمين الصحى والتأمين ضد البطالة، وتأمينات التقاعد، ودعم الإيجارات المنزلية، وأخيرا مجانية التعليم العام، والجامعى فى كثير من الدول، بل ومجانية الدراسات العليا من خلال نموذج فريد للتعاون بين القطاع الصناعى كممول وبين الجامعات ومراكز البحث العلمى والتكنولوجى.
لكن شيئا ما حدث.. فما الذى استجد، وأدخل هذا النموذج الخلاب فى أزمة مستحكمة؟!
كانت البداية فى بريطانيا، وأنتجت تاتشر والتاتشرية التى عصفت بالكثير من منجزات بل ومقدسات دولة الرفاه الاجتماعى، ومهدت لظهور ريجان والريجانية فى الولايات المتحدة، ليدشنا معا حقبة النيوليبرالية، التى أعادت القداسة لحرية رأس المال، وللحد من الانفاق الاجتماعى، والتدخل الحكومى فى الاقتصاد ليحتل تعبير «الخصخصة» مكان الصدارة فى الأدبيات الاقتصادية.
الحق أن التاتشرية والريجانية لم تكونا نبتين شيطانيين، أو مجرد أنانية وجشع من زعمائها ومفكريها، ومؤيديهم، ولكنهما كانتا النقيض «الجدلى» لإخفاقات وعثرات نموذج السوق الاجتماعية، ففى الوقت الذى ظهرت فيه السيدة تاتشر كانت بريطانيا تترنح اقتصاديا، فيما استبدت النقابات العمالية بالحكومة والبلاد اضرابا وتعنتا فى المفاوضات.
وهكذا ندخل فى قلب المشكلات التى أفرزها النموذج، إذ بالغت النقابات فى استغلال نفوذها، فى تحديد الأجور، وتحديد ساعات العمل، ليس فقط فى بريطانيا، ولكن كانت النقابات العمالية الألمانية قد سبقتها، وتسببت فى سقوط حكومة شميت الاشتراكية!.
فى ذات اللحظة، وفيما كان النمو الاقتصادى يتباطأ، وتنخفض الصادرات بدأ تراكم العجز المالى فى الميزانية، وفى صناديق الإنفاق الاجتماعى، والأسباب أكثر من أن تحصى هنا، فمنها ارتفاع نسبة العاطلين اختياريا، للحصول على إعانة البطالة، مع العمل فى السوق السوداء، وتزايد معدلات الأعمار، لترتفع نسبة المتقاعدين إلى من يعملون بمعدلات متصاعدة، وهؤلاء يحصلون على دخول بلا أعباء ضريبية أو تأمينية، مع انخفاض مستمر فى معدلات المواليد، يؤدى إلى انخفاض نسب القادرين على العمل، بما يخلق الحاجة لاستيراد عمال مهاجرين.
كذلك تكونت شبكات للفساد فى قطاع التأمين الصحى، أدت إلى الإسراف فى زيارات العيادات والمستشفيات، والفحوص، والوصفات دون حاجة طبية حقيقية.
وفوق كل هذا أدى توسع الاتحاد الأوروبى إلى الشرق إلى تفوق الاعضاء الجدد فى المنافسة مع الدول المؤسسة الغنية والمتقدمة صناعيا، فقد كانت الأجور فى دول شرق أوروبا أقل كثيرا، وكذلك كانت الضرائب الرأسمالية، فبينما كانت الضريبة على الأرباح الصناعية تزيد على 45% فى ألمانيا، لم تكن تزيد على 19% فى تشيكيا، لذا كان من الطبيعى أن تزاحم صادرات الأوروبيين الشرقيين الصادرات الألمانية، وكان من الطبيعى أيضا أن تتوسع الشركات الصناعية الكبرى فى دول أوروبا الغربية فى أسواق شرق أوروبا، بدلا من بلدانها الأصلية، كل ذلك ولم نتطرق إلى منافسة الصين وسائر النمور الآسيوية.
استكمالا للحديث عن ألمانيا، فقد كانت هذه هى خلفية أجندة 2010 الإصلاحية، لحكومة شرودر الاشتراكية عام 2005، والتى ترتكز على ترشيد الإنفاق الاجتماعى، وتنظيم سوق العمل، ولكن دون خفض الضرائب على الأغنياء، وفرضها على الفقراء، ومع أن شرودر خسر الانتخابات بفارق ضئيل جدا، فإن حزبه شارك فى الحكومة التالية برئاسة ميركل، التى التزمت بهذه الأجندة، وطبقتها تحت إشراف نائبها الاشتراكى.
عودة إلى فرنسا بعد هذا الاستطراد الضرورى، لنجد أنها تأخرت كثيرا فى إصلاح نموذجها الخاص من دولة السوق الاجتماعية، وهو ما تظهره المقارنة مع الحالة الألمانية، حيث استعيد التوازن الاقتصادى والمالى، إلى حد امتلاك القدرة على ضخ أموال الإنقاذ لكل من اليونان وإسبانيا والبرتغال، بغض النظر عن المضاعفات السياسية التى أدت اليها أزمة اللاجئين فيما بعد.
كذلك فمن مفارقات الحالة الفرنسية أن ضرائب الوقود التى فرضتها حكومة الرئيس ماكرون، وتسببت فى ثورة السترات الصفراء لم تأت فى سياق برنامج شامل للإصلاح، كما كان هو نفسه قد تعهد فى حملته الانتخابية، بل ركزت على الضغط على الفقراء منتحلة أعذارا بيئية لصالح السيارات الكهربائية، فى حين كان يمكن الاستعاضة عن هذه الضريبة بدعم أسعار بطاريات السيارة الكهربائية، إذا كان الغرض بيئيا محضا.
لكن أهم مفارقات الحالة الفرنسية أن الإصلاح المالى على حساب الأضعف جاءت فى لحظة شك عميقة فى نتائج ومستقبل النيو ليبرالية، وهو الشك الذى أطلقه وأصله وعممه كتاب «رأس المال فى القرن الحادى والعشرين» للمفكر الاقتصادى الفرنسى توماس بيكيتى، حين أثبت عودة الاستغلال، وتركز الثروة فى أيدى قلة قليلة جدا، فى فرنسا ومعظم دول العالم.
يفسر لنا هذا تركز مطالب متظاهرى السترات الصفراء، ومن انضم إليهم من الطلاب وسكان المدن الكبرى على العدالة الاجتماعية، بالمعنى الكلاسيكى العريض، رغم انتشار دعاوى وادعاءات الشعبوية اليمينية، والفاشية القومية والعنصرية خارج فرنسا، وحولها، فيا لها من استدارة من التاريخ! ويا له من شعب بارع فى التقاط اللحظة التى يقود فيها التغيير فى العالم! ويا له من رئيس قد يصنع المستقبل، أو يخرج منه!
نقلا عن الشروق القاهرية