بقلم - عبد العظيم حماد
منذ عام بالضبط، اختتمنا مقالا هنا بعنوان «قيود التحالف الخليجى مع إسرائيل» بالقول: «فى رأينا أن المربع الذهبى المكون من مصر والسعودية وتركيا وإيران هو الأحق والأقدر على قيادة المنطقة، ولكننا ننتظر الخطوة الأولى من طهران».
وقد بنى هذا الرأى على معطى أساسى، وهو أن التحالف الخليجى مع إسرائيل لن يؤدى إلى أى تسويات سلمية جزئية أو شاملة فى الإقليم، سواء فى منطقة الجزيرة العربية والخليج أو فى المشرق العربى، أو فى فلسطين، بل إن العكس هو الصحيح على طول الخط، حيث سيؤدى التحالف الخليجى مع إسرائيل إلى تعميق التناقضات، وتوسيع الصراعات، وهو ما ثبت يقينا للجميع الآن، إذ وصلت كل الأطراف وكل الأزمات إلى طريق مسدود، فى اليمن، وفى الملف النووى الإيرانى، وفى القضية الفلسطينية، بل وفى سوريا ولبنان، حيث وصل التأثير الخليجى العربى إلى مستوى الصفر تقريبا.
ثم جاءت الأزمة الكبرى حول مقتل الكاتب السعودى جمال خاشقجى فى قنصلية بلاده فى مدينة إستنبول فى تركيا، بكل أبعادها المعقدة داخليا، وإقليميا، ودوليا لتحول الطريق المسدود إلى سلسلة متلاحقة من الدوامات والعواصف، بما أجبر ــ أو سيجبر ــ كل الأطراف تقريبا على مراجعة استراتيجياتها، للحد من الخسائر، أو تعظيم المكاسب، (خصوصا فى حالة تركيا وإيران)، لكن الشاهد المهم هنا هو أن إسرائيل لم تستطع، بل لا تملك أن تقدم الكثير، ولا القليل فى معالجة هذه الأزمة، فضلا عن المساهمة فى إيجاد مخارج منها، أو هذا ما يبدو حتى الآن، وفى المستقبل المنظور.
كنا فى ذلك المقال المنشور منذ عام قد كتبنا نقول إن الرهان الخليجى على إسرائيل للقضاء على البرنامج النووى الإيرانى، أو إسقاط النظام الحالى فى طهران ليس مضمونا، واستشهدنا بتقرير إسرائيلى ذكر أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو كان قد اتخذ قرارا فى عام 2012 لتوجيه ضربة للمشروع النووى الإيرانى، وجمع مجلس وزرائه المصغر (أو اللجنة الوزارية الأمنية) للموافقة على القرار، وإصداره رسميا، إلا إنه لم يحصل على الموافقة، لأن كلا من رئيس أركان الجيش، ورئيس جهاز الموساد، ورئيس جهاز الشين بيت (الأمن الداخلى) اتفقوا على الرفض، ولذا امتنع بقية الوزراء عن تأييد نتنياهو، وكانت الأسباب العسكرية للرفض هى توقع خسائر ضخمة فى شمال إسرائيل من هجمات صاروخية لحزب الله اللبنانى الموالى لإيران، أما الأسباب السياسة لهذا الرفض فقد حددها رؤساء الأركان والموساد والشين بيت فى قولهم إن قرارا كهذا يتخذ فى واشنطن وليس فى تل أبيب، لأن مضاعفاته الإقليمية سوف تلحق أضرارا جسيمة بالمصالح الأمريكية والدولية فى منطقة الخليج، من تهديد الأوضاع الداخلية لحلفاء واشنطن، إلى إغلاق مضيق هرمز، وربما ضرب المنشآت البترولية فى المنطقة.
وإذا كان انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، ولهجته الحادة ضد إيران، وقراره بالانسحاب من الاتفاق الدولى مع إيران حول برنامجها النووى، ثم مبادرته لاستئناف العقوبات الأمريكية على طهران... إذا كان كل ذلك قد فسر خليجيا بأنه يعزز الرهان على التحالف الاستراتيجى مع إسرائيل، فإن شواهد الفترة التى انقضت من رئاسة ترامب لا توحى من قريب أو بعيد اعتماده مبدأ الحل العسكرى فى مواجهة إيران، ولو بتوكيل إسرائيل، ثم إن سلسلة الأزمات المعقدة التى تفجرت فى منطقة الخليج والجزيرة العربية، وأحدثها أزمة مقتل خاشقجى أدت بدورها إلى تراجع احتمالات ذلك الحل العسكرى للأزمة لمصلحة الدول الخليجية.
من المهم هنا التأكيد مرة أخرى، كما أكدنا من قبل مرارا وتكرارا أن الإشقاء فى الجزيرة العربية والخليج لديهم ما يسوغ قلقهم من توغل النفوذ والتحريض الإيرانيين حولهم، ومن ثم فلديهم ما يبرر الوقوف بحزم ضد هذا التوغل، لكن ذلك كله شىء والبحث عن أنسب الاستراتيجيات لحصر النفوذ والتهديد القادمين من طهران شىء آخر، أما التعويل على إسرائيل فهو شىء ثالث، بل وخارج السياق تماما.
من الأدلة المهمة على أن التعويل على إسرائيل جاء من خارج السياق تصريح سوزان رايس مستشارة إدارة الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما للأمن القومى منذ يومين بأن هناك من دفعوا الولايات المتحدة للدخول فى صراع مع إيران، ونحن نعرف أن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو كان هو الوحيد فى العالم تقريبا الذى ناهض اتفاق الدول الكبرى مع طهران، وخطب ضده فى الكونجرس الأمريكى من وراء ظهر البيت الأبيض، ونعرف أيضا أن ملوك ورؤساء دول مجلس التعاون الخليجى الست كانوا قد أبدوا تفهما لهذا الاتفاق، فى لقائهم مع الرئيس أوباما فى الرياض، مع تحفظهم على ما وصفناه بتوغل النفوذ الإيرانى فى الإقليم، كما أننا نذكر أن العواصم الخارجية كانت قد انفتحت فى وقت من الأوقات على الحوار مع طهران، إلى حد تبادل الزيارات عالية المستوى، ودعوة رئيس إيران للمشاركة فى إحدى قمم مجلس التعاون الخليجى، وهو ما يعنى أنه كانت هناك فرص لاستمرار وتقدم هذا الحوار قطعها الرهان على إسرائيل، وقطعها أيضا نشوب الحرب الأهلية السورية، والانقلاب الحوثى فى اليمن.
وسط هذه التشابكات التى زادتها تعقيدا أزمة مقتل خاشقجى، تبدو الحاجة ملحة إلى فصل الخيوط المتشابكة بعضها عن البعض، وفى رأينا أن استبعاد الخيط أو الخط الإسرائيلى سوف يخفف كثيرا من تعقيدات الموقف، ومن المؤكد أن مثل هذه الخطوة لم تعد مستبعدة فى ضوء ما سيترتب على أزمة خاشقجى من تغييرات فى السياسات والأوضاع الإقليمية والداخلية.
هنا تظهر فرصة للعودة إلى دبلوماسية ما قبل الربيع العربى لإقامة ترتيبات أمنية إقليمية تقودها بالطبع دول الإقليم الرئيسية أو المحورية، أى أضلاع المربع الذهبى فى المنطقة (مصر والسعودية وتركيا وإيران)، إذ إن التفاهم بين هذه الأضلاع الأربعة هو وحده القادر على صنع التسويات الجزئية فى اليمن وسوريا وليبيا، بما ينعكس إيجابا على الأوضاع فى العراق ولبنان، ويضغط على إسرائيل لقبول تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، وكل ذلك يهيئ للترتيبات الأمنية السلمية الإقليمية والشاملة.
كما ذكرنا منذ عام، وكما نؤكد الآن فإن مسئولية خاصة تقع على إيران لإحياء هذه الاستراتيجية، إذ عليها أن تبرهن على حسن نيتها بالإقلاع عن التدخل فى الشئون الداخلية للدول العربية، التى ينتمى جزء كبير أو صغير من سكانها للمذهب الشيعى، وأن تقبل ما يقبله الفلسطينيون فى أى تسوية محتملة مع إسرائيل، وفى كل الأحوال فإن المبدأ الأول والرئيسى فى أى ترتيبات أمنية إقليمية سيكون احترام سيادة الدول وعدم التدخل فى شئونها الداخلية، بما يزيل الحساسيات ليس من إيران وحدها، ولكن من تركيا أيضا.
قد يرى كثيرون هذا التحليل متفائلا أكثر مما تنبئ به حدة الصراعات الحالية فى الإقليم عموما، وفيما بين بعض أضلاع «مربعنا الذهبى» وبين بعضها الآخر، خاصة إذا لم نكن قد نسينا اجتماع جيمس ماتيس وزير الدفاع الأمريكى بنظرائه الخليجين فى المنامة منذ أيام لتدشين التحالف العربى (السنى) ضد إيران، بالمشاركة مع إسرائيل، وإذا لم نكن نسينا أيضا زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلى منذ أيام لمسقط، وزيارة وزيرة الثقافة الإسرائيلية للإمارات، ومع ذلك فالقول الراجح هو أن نيتينياهو كان يريد فتح قناة خلفية فى مسقط للاتصال بطهران، وعموما فإن هذه التحركات الإسرائيلية الأخيرة تندرج فى سياق ما قبل مقتل خاشقجى، ومع ذلك أيضا فليكن تحبيذنا لقيادة المنطقة رباعيا من بين مصر والسعودية وتركيا وإيران دعوة أو أمنية، من أجل الخروج من هذا الطريق المسدود.
نقلا عن الشروق القاهرية