رأينا فى الأسبوع الماضى كيف كان التذرع بحماية الأجانب والأقليات واحدة من ثغرات التدخل الأجنبى فى شئون مصر، إلى حد تهديد استقلالها، ومع التسليم بأن الدولة المصرية الحديثة، وكذلك المجتمع فى مجمله لا يعتبران الأقباط أقلية بالمعنى المتداول فى علوم السياسة والاجتماع وإنما مواطنون أصلاء، فإن المتطرفين «الإسلاميين» يعتبرونهم كذلك، ويشاركهم فى هذه الرؤية ــ لأسباب ذرائعية ــ ورثة النزعة الاستعمارية القديمة فى الغرب، ومنظرو ومخططو اليمين الصهيونى فى إسرائيل والعالم، ولذلك فإن إبطال هذه الذريعة، أو سد تلك الثغرة هو من صميم ضمانات الأمن القومى المصرى، وهذه عقيدة سياسية ووطنية حسمت نهائيا ــ على مستوى النخب وعلى مستوى المؤسسات، وعلى المستوى الشعبى، منذ الأيام الأولى لثورة 1919
ولأن هذا المقال ليس بحثا فى مولد الوطنية والمواطنة المصريين فى مخاض تلك الثورة الكبرى، ولكنه معنى بالدرس الواجب استخلاصه من أحداث قرية دمشاو هاشم بالمنيا، وما قبلها من أحداث مماثلة، ومن ثم فإنه معنى بالخطوات الواجب اتخاذها استخلاصا من هذا الدرس، فإننا نكتفى بتذكير مواطنينا جميعا، بأن مبادرة انضمام الأقباط إلى الوفد للمطالبة باستقلال مصر جاءت من الأقباط أنفسهم، وتقدم بها المرحوم الأستاذ فخرى عبدالنور، كما نذكر مواطنينا بالرد المفحم الذى رده واصف غالى على ممثلى الاحتلال البريطانى، عندما عبروا له عن دهشتهم من انضمامه للوفد جنبا االى جنب مع المسلمين الذين قتلوا والده بطرس غالى باشا منذ سنوات على حد قولهم، فقد رد واصف غالى عليهم قائلا: «أن أكون مع الذين قتلوا أبى خير من أكون مع الذين يقتلون وطنى».
إذا كان هذان المثلان يؤكدان المؤكد أصلا، وهو أن الأقباط االمصريين يحرصون بالدرجة نفسها على الاستقلال الوطنى والأمن القومى، فكيف نعمل على وقف التدهور الحالى فى العلاقات الشعبية فى مناطق بعينها، وفى دوائر بذاتها بين المصريين المسلمين، وبين المصريين الأقباط؟ وبذلك نبطل الذرائع، ونسد الثغرات؟
من الواضح أن مسألة بناء الكنائس، هى السبب ــ أو الموضوع ــ المباشر لذلك االتدهور، خصوصا فى القرى، وبعض مدن الأقاليم، والمفترض أن صدور قانون خاص بهذه المسألة فى عام 2016 قد وضعها على طريق الحل، ولذا فإن استكمال عملية توفيق أوضاع الكنائس غير المقننة يجب أن يحظى بأولوية مطلقة، غير أن الأهم ــ الآن ــ هو استرداد الدولة لاختصاصها الأصلى فى تطبيق القانون، وفرضه بكل الوسائل من أيدى المواطنين الذين يخالفون، أو الذين يسعون إلى تطبيقه بأيديهم من وراء ظهر مؤسسات الدولة، وبشرح تفصيلى فإن المطلوب من المواطنين ورجال الدين الأقباط أن يتوقفوا عن عادة إقامة الشعائر الدينية فى أماكن ليس مصرحا بها قانونا، على أن يكون مفهوما أن إقدام الأقباط على هذه المخالفة القانونية لا يسوغ للمواطنين المسلمين منعهم بالقوة بتاتا، ولا يخولهم الحق فى تطبيق القانون بأيديهم، بما يصاحب ذلك من عنف واعتداءات وتخريب، وكذلك ينبغى أن يكون واضحا وضوحا قطعيا لا لبس فيه أن المسلم المعترض على إقامة شعائر قبطية فى مكان غير مرخص ليس من حقه سوى إبلاغ السلطات المختصة، ولا شىء غير ذلك، مع تطبيق أقصى وأقسى العقوبة على من يتجاوز الإبلاغ إلى تطبيق القانون بيده، سيما إذا اقترن ذلك بعنف أو اعتداء أو تخريب.. أو إزهاق أرواح.
بذلك نكون قد قطعنا شوطا مهما على الطريق الطويل لاستعادة هيبة القانون، كمدخل للمحافظة على حقوق الدولة، وقيم المواطنة.
ولكن ماذا عن الظواهر والمشكلات التى لا يمكن التعامل معها بالمدخل االقانونى وحده.. وأهمها بالطبع ذلك السجال اليومى بين المتطرفين والمهيجين من الجانبين المسلم والقبطى؟ كما رصده الصديق الدكتور سمير مرقص، فى مقال يوم الأربعاء الماضى «بالمصرى اليوم»، فهذا السجال الوافد إلى مصر حديثا ضمن سائر أطروحات التطرف الإسلامى هو الجسر الذى انتقلت عبره الخلافات العقيدية، والمجادلات اللاهوتية من مستوى الحوار والدرس بين المتخصصين، إلى مستوى الصراع والطعن المتبادل، علما بأنه من طبيعة الأمور أن توجد هذه الخلافات، وقد كانت موجودة قديما، وستظل موجودة مستقبلا، وإلا كان الناس ملة واحدة، كما أن هذا السجال هو الذى نزل بكل ذلك من دوائره العلمية والأكاديمية، أو حتى من دوائره «الوعظية» هنا وهناك إلى مستوى رجل الشارع حتى فى القرى، والأحياء الشعبية فى المدن، خصوصا فى عصر الفضائيات التليفزيونية، ووسائل التواصل الاجتماعى على شبكة الإنترنت.
هنا دور يبحث عن أصحابه، وفى رأينا أن مؤسسة بيت العائلة المصرية، والمجلس القومى لمكافحة الإرهاب والتطرف، وكذلك المثقفون المستنيرون، وسائر منابر مخاطبة الرأى العام هى الأجدر والأقدر على القيام بهذا الدور.
ليس من واجب بيت العائلة مثلا الحلول محل الدولة، واجراء مصالحات عرفية فى النزاعات التى تنشأ حول مسألة بناء الكنائس، أو غيرها من قضايا النزاع الاجتماعى بسبب العقائد أو الممارسات الدينية، ولكن واجبه الأهم والذى يكاد يكون حصريا هو وقف حملات السجال الدينى المتبادلة بين المتطرفين هنا وهناك، بسلطته الأدبية، بحكم أنه يضم أعلى الشخصيات من الجانبين، أى علماء الدين المسلمين، ورجال الدين المسيحيين.
ومن الناحية العملية يمكن لبيت العائلة، كما يمكن للمجلس القومى لمكافحة الارهاب والتطرف تأسيس مركز أو هيئة تختص برصد هذه االمساجلات، وتحليلها، وبيان أوجه االطعن غير المقبول بها فى عقائد وتاريخ ومقدسات الطرف الآخر، والرد على كل ذلك، مع التشديد على إبقاء الخلافات العقائدية المحضة بعيدا عن الخطاب العام، وحصرها فى دوائر الاختصاص الأكاديمية والبحثية والوعظية المغلقة كما سبقت الإشارة.
أما إذا تبين لهذا المرصد وجود ممارسات تحريضية على العنف أو الكراهية، فسيكون من حق بيت العائلة ــ مثلما هو حق كل مواطن ــ تحريك دعوى جنائية أمام النيابة العامة، وكما نعلم فإن هذا معمول به فى معظم دول العالم التى تكافح جرائم الكراهية والعنصرية، ويؤسفنى أن أقول خذوا المثل من المراصد اليهودية فى أنحاء العالم لجرائم أو مخالفات معاداة السامية، وكشفها للرأى العام، وملاحقة مرتكبيها قضائيا.
تبقى رسالة لا بأس من تكرارها للمتطرفين المسلمين، خاصة فى التيارات السلفية، المتأثرة بالوهابية السعودية، وبالفقه الهندى الباكستانى الموروث من عصور الصراع الدينى، حيث كان المسلمون أقلية حاكمة، ظالمة أحيانا، ثم أصبحوا بعد الاحتلال البريطانى أقلية مضطهدة فى أحيان كثيرة، هذه الرسالة هى أن مشكلتك ليست مواطنك القبطى، أو عقيدته أو مكان عبادته، وإنما مشكلتك هى تخلف مجتمعك، وفقر نسبة كبيرة من شعبك، وحاجة دولتك إلى الاستقرار، والنمو، والتقدم، والحفاظ على استقلالها الوطنى، وأمنها القومى، وربما يكون مفاجئا لك أن تعلم أن هذه كلها يشاركك فيها مواطنك القبطى، ولا يشاركك، ولن يشاركك فيها المسلم السعودى، أو الباكستانى، أو غيرهما.
من كان له أذنان للسمع فليستمع، كما يقول السيد المسيح عليه السلام، أم على قلوب أقفالها كما يقول القرآن العظيم؟!
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع