الآن حصحص الحق.
ذهب عبدالعزيز بوتفليقة، رجل ورمز التوافق بين أشتات الحالة الجزائرية، الرجل الذى لجأت أو اطمأنت إليه كل الأطراف، باعتباره حلا وسطا مقبولا منهم جميعا، لوجود قاسم مشترك بينه وبين كل طرف فى الداخل والخارج، وذلك بعد أن استهلكت المحنة ثلاثة رؤساء قبله، وعشرات الرجال فى الصفوف التالية، الى جانب مئات الألوف من المواطنين، الذين أزهقت أرواحهم خلال سنوات الحرب الأهلية.
قبل بوتفليقة قتلوا الرئيس محمد بوضياف، الذى جاءوا به من البرارى السياسية فى منفاه المغربى، أملا فى استعادة الزخم المعنوى لحرب التحرير الجزائرية، بحكم أنه من القادة التاريخيين الخمسة الذين أسسوا جبهة التحرير الوطنى من الاستعمار الفرنسى الاستيطانى الإلحاقى، وذلك بحسبان أن استعادة هذا الزخم سوف ترضى أو تلهى الأجيال الجديدة، والمهمشين من جيل حرب التحرير، بعد أن أوقف رجال الدولة العميقة المسار الانتخابى فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى، للحيلولة دون فقدانهم للسلطة، لحساب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والتى صوت لها أولئك الرافضون من الأجيال الجديدة، والغاضبون من الجيل السابق، على الرغم من أن الرفض والغضب كانا مستحقين بجدارة، بسبب احتكار مجموعة من القيادات الأمنية والسياسية ووكلائهم من رجال الأعمال للسلطة والثروة، وهو ما أدركه وتفهمه بوضياف، وشرع فى التصدى له على الفور، وأثبت أنه لايزال يحتفظ بتلك النخوة القديمة، التى دفعته إلى التنادى مع رفاقه الأربعة الآخرين إلى حمل السلاح لتحرير وطنه، فلم يكن من حل سوى اغتيال الرجل، ولما يمض عليه فى المنصب سوى أقل من 6 أشهر.
بعد اغتيال الرجل بيومين كنت فى الجزائر لتغطية الأحداث صحفيا، وكان الناس هناك مواطنين ومسئولين وسياسيين ومراسلين ودبلوماسين أجانب يتكلمون فى كل شىء إلا الإجابة عن سؤال: هل تصدقون أن الرقيب مبارك بومعرافى هو القاتل الأوحد للرئيس، كما تقول الرواية الرسمية بزعم أنه موال لجبهة الإنقاذ؟ وكان الصمت أبلغ من الكلام.
أذكر أيضا أن السفير إبراهيم يسرى سفير مصر وقتها فى الجزائر نصحنى بمراعاة الحساسية الخاصة للجزائرين تجاه الصحافة المصرية، لإدراكهم قوة تأثيرها عربيا وعالميا، كما نصحنى بالتجول فى الأحياء الشعبية لأشاهد بعينى فقر الأسواق فى هذا البلد الغنى بالنفط، ولأشاهد أيضا ظاهرة (الحيطيست) أى العدد الكبير من الشباب الذين لا يجدون ما يفعلونه سوى الوقوف فى الشوارع، مسندين ظهورهم إلى حوائطها، معقبا بأنك سوف ترى الأسباب الحقيقية والحية لرفض النظام، وللمآسى المقبلة، والتى لا يعلم إلا الله مداها.
نستكمل سياق استهلاك المحنة الجزائرية للرؤساء، وغيرهم من وجوه الصفوف التالية، وصولا إلى التعويذة المسماة عبدالعزيز بوتفليقة، فقد جىء بمجلس رئاسى يتصدره مجاهد قديم اسمه على كافى، دون جدوى، لأن هذا المجلس كان محروما من السلطة الحقيقية التى تركزت فى يد الجنرالين خالد نزار وزير الدفاع وقائد الجيش، والعربى بلخير وزير الداخلية، وهما مع زملائهما من أوقف المسار الانتخابى، وفى هذه المرة حاولوا التغطية على مأساة اغتيال بو ضياف، ومواصلة المواجهة الدامية مع الإسلاميين باستدعاء البومدينية، بما أن الجزائريين كانوا لايزالون يعتزون بخلو صفحة الرئيس الأسبق هوارى بومدين من الفساد، أصل الداء فى البلاد، كما كانوا معتزين بالمكانة الإقليمية والدولية الرفيعة للجزائر فى عهد بومدين، على الرغم من اعترافهم بديكتاتوريته، فجىء بأحد أهم رموز المرحلة البومدينية من غياهب النسيان، ليرأس الحكومة الجديدة، وهو بلعيد عبدالسلام، وزير الصناعة والبترول الأسبق، أكرر الصناعة (أى التنمية)، والبترول (أى الثروة الرئيسية).
لكن ذلك أيضا لم يجد شيئا بسبب تمترس المؤسسة الأمنية على خط المواجهة مع الإسلاميين، الذين كانوا متحجرين بدورهم.
فى لحظة صدق مع النفس، أو لحظة يأس، اتفق على توحيد سلطة القرار فى شخص رئيس جديد من المؤسسة العسكرية يعرف عنه نظافة اليد، وعدم الخوض فى بحر الدماء، فجىء باليمين زروال الذى لم يكمل مدته الرئاسية، ربما لأن جنرالاته لم يكونوا مستعدين لدفع ثمن وقف الحرب الأهلية، ومع ذلك فقد تحقق فى حقبته أحد أهم المكاسب فى طريق الوئام الوطنى، إذ تقاعد الجنرال خالد نزار، ومن قبله العربى بالخير، ومن ثم انفتح الطريق أمام حل جديد، ورئيس جديد، ليأتى بوتفليقة.
هذا الرئيس الجديد جمع فى شخصه قواسم مشتركة مع كل الأطراف، كما قلنا فى البداية، فقد كان الشريك الأول للرئيس بومدين، وكان ضابطا فى جيش التحرير، وهو ينتمى إلى عائلة أمازيغية، ويرتبط من جهة الأم بعائلة الشيخ البشير الإبراهيمى خليفة الشيخ بن باديس فى رئاسة جمعية العلماء، التى حفظت للجزائر تراثها، وعقيدتها الإسلاميين، وكانت بذلك أحد الروافد الرئيسية لجبهة التحرير الوطنى الجزائرية، ثم هو عروبى على طريقة بومدين، وهو ما يعنى الترحيب به لدى الخائفين على هوية الجزائر من المتفرنسين، وهم كثر، كذلك كان بوتفليقة مقبولا لدى فريق مهم من أولئك المتفرنسين، بحكم أنه حداثى التعليم والتكوين، فضلا عن أنه وجه معروف ويحظى بالإحترام عالميا وعربيا، وله صلات وثيقة كوزير خارجية سابق بفرنسا والولايات المتحدة المؤثرتين بقوة فى الشأن الجزائرى، بل وله صلة خاصة بالخليج والسعودية، بما أنه عمل عدة سنوات مستشارا للمرحوم الشيخ زايد رئيس دولة الإمارات العربية، وفوق ذلك كله أو إلى جانبه كانت الموءسسة العسكرية قد أرهقت، ثم وصلت إلى طريق مسدود فى الحكم والسياسة، والحرب الأهلية، كما كان الطرف الآخر أى الإسلاميون قد وصلوا إلى الطريق المسدود نفسه، وسط حالة من السخط الشعبى الكاسح على الطرفين.
هكذا جاء الرجل فى وقته تماما، فحقق الوئام الوطنى، وأوقف الحرب الأهلية فى نموذج نادر من اللقاء بين السياسى والظرف التاريخى، وكما نعرف فقد بلغ من شدة احتياج هذا الظرف لذلك الرجل أن أسقطت كل التهم، التى كان قد أدين غيابيا بها، فى فترة نفيه، بعد وفاة بومدين، والانقلاب على الرئيس الشاذلى من جديد، وفى ظروف اغتيال بوضياف، وكانت هذه المحاكمات الغيابية وقتها هى الوسيلة المتاحة لقطع طريق المزاحمة على قيادة الجزائر عليه، فى الوقت الذى كان خصومه يعتقدون أنهم قادرون على القيادة والإنقاذ.
الآن ذهب بوتفليقة رفضا من الشعب، لأسباب كثيرة، كلها وجيهة، أولها أن استمراره فى الحكم على الرغم من مرضه العضال، وعلى الرغم من إرادته غالبا، يعد إهانة لا تغتفر لكرامة الجزائريين، سيما وأنه فى المنصب منذ 20 عاما، مما تطلب تعديل الدستور الذى انتخب هو نفسه بمقتضاه، فيما اعتبر ردة عن الديمقراطية، وإضافة إلى ذلك، فقد تكاثرت حوله شبكات الفساد، وبالطبع لن يكون قادرا على التصدى لها.
قلنا إنه بذهاب بوتفليقة حصحص الحق فى الجزائر، لأن القواسم المشتركة التى مثلها رجل بشخصه، لن تجد من يمثلها مرة أخرى، ومن ثم فعلى الجميع مواجهة الاستحقاقات التاريخية لتحول ديمقراطى مؤسسى، يصنعه الشعب والدولة العميقة معا، دون تهرب وراء واجهة كالتى مثلها بوتفليقة، فهل من مجيب؟
لكى يحدث ذلك يتحتم أن تكون هذه الدولة العميقة قد استوعبت دروس الماضى البعيد الأليم، كما يجب أن تستوعب خبرة الشهر الأخير حيث فشلت كل محاولتها للالتفاف على الحراك الشعبى، ومنها محاولة إلغاء الانتخابات الرئاسية مقابل عدم ترشح بوتفليقة، والدعوة إلى حوار وطنى، والتهديد بعنف جديد، والتحذير من مؤامرات خارجية، كما يجب عدم الاستماع لنصائح من هذه العاصمة العربية أو الأجنبية أو تلك، فلن يحل مشكلة الجزائريين إلا توافق الجزائريين أنفسهم، وتأسيس نموذج للعلاقات المدنية العسكرية يقوم على الثقة المتبادلة والمشاركة الحقيقية، ويقضى على تراث الفساد واحتكار السلطة والثروة.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع