بقلم - عبد العظيم حماد
ما هى الدلالة الأهم لنتائج انتخابات الكونجرس الأمريكى يوم الثلاثاء الماضى فى السياق الأطول والأوسع للصراع بين اليمين الشعبوى وبين القوى التقدمية فى الولايات المتحدة على وجه الخصوص، وفى العالم عموما؟
من وجهة نظرنا أن هذه الدلالة هى إثبات أن القوى والمؤسسات التقدمية، ليست، ولن تكون عرضة لهزيمة تاريخية نهائية، تدشن حقبة من سطوة الإيديولوجيات القوميات الفاشية الجديدة أو المتجددة إلى أجل غير منظور.
هذا ما قلناه هنا فى الشروق يوم 21 سبتمبر الماضى فى مقالنا المعنون «العالم بعد نوفمبر الأمريكى».
صحيح أن التقاليد السياسية الأمريكية تؤكد أن الحزب الحاكم، بمعنى الحزب الذى ينتمى إليه الرئيس، يخسر عادة الأغلبية فى أحد مجلسى الكونجرس أو كليهما فى الانتخابات النصفية، لكن مدلول سيطرة المعارضة الديمقراطية على مجلس النواب بأغلبية مريحة هذه المرة يتجاوز كونها مجرد اطراد لهذه التقاليد، وحتى إذا اعتبرناه اطرادا للسوابق فإن ذلك أيضا يثبت سقوط
«بشارات» الرجعية بعصر متطاول من سيطرة الفاشيات القومية، ذات النكهة العنصرية الواضحة على مجتمعات الديمقراطية الصناعية.
كان الرئيس دونالد ترامب رسول الشعبوية والقومية ذات الأفق الضيق هو بنفسه الذى حول انتخابات الثلاثاء الماضى إلى استفتاء على شخصه وعلى سياساته قولا و فعلا، فهو قد قال ذلك صراحة، وقاد بنفسه الحملات الانتخابية للمرشحين الجمهوريين فى عدد كبير من الولايات، ولم يخف لا هو ولا المتعصبون له الأمل فى الاحتفاظ بالاغلبية فى مجلسى الكونجرس وبرلمانات الولايات، بل إنه لم يسلم علنا بإمكان حصول المعارضة الديمقراطية على أغلبية مقاعد مجلس النواب إلا صبيحة يوم الانتخابات، وإذا فبأى معيار يمكن القول إن «الترامبية» تلقت صفعة، أو لنقل تعرضت لنكسة مؤثرة، ليس أهم آثارها هو أن أجندة الرئيس التشريعية المنحازة عمدا للأغنياء والعنصر الأبيض والقوة الذكورية لن ترى النور غالبا، أو أنه أصبح مضطرا لقبول الحلول الوسط، أو أن الطريق أصبح مفتوحا للتحقيق البرلمانى الجاد فى مخالفاته المالية والضرائبية، وفى علاقته المحتملة بالتدخلات الروسية فى الانتخابات التى جاءت به إلى البيت الأبيض، ولكن الأهم من ذلك كله، وكما أشرنا فى بداية هذا المقال هو عودة الروح لمبدأ الرقابة والتوازن فى النظام السياسى الأمريكى، بما يمنع تركز القوة فى مكان واحد، أو شخص واحد، أو فى جماعة أو طبقة محددة ومحدودة، ومن ثم عودة الروح للقوى والمؤسسات التقدمية المؤمنة بالسلام العالمى والأخوة الإنسانية والتعددية وديمقراطية التشريع، واستقلال القضاء، وفوق ذلك كله المؤمنة بمنجزات الإنسانية على صعيد التنظيم والتعاون الدوليين، سواء فى إطار الأمم المتحدة ومنظماتها، أو فى إطار المعاهدات متعددة الأطراف.
مظهر آخر من مظاهر عودة الروح للقوى التقدمية (بالمعايير الأمريكية) هو إعادة اكتشاف قوة الرأى العام، وحرية التعبير، وتأثيرهما فى الحياة السياسية، وذلك من خلال التداخل القوى بين مقتل الكاتب الصحفى السعودى جمال خاشقجى فى قنصلية بلاده فى استانبول، وبين الحملات الانتخابية للمرشحين للكونجرس، فقد كان الرأى العام، والصحافة المستقلة هما ما أجبر المرشحين الجمهوريين على معارضة المواقف الأولى للرئيس ترامب، وما أجبر الرئيس نفسه على تغيير موقفه المرة بعد المرة فى اتجاه استرضاء هذا الرأى العام خوفا على حظوظ المرشحين المؤيدين له، وخوفا على حظوظه هو نفسه فى انتخابات الرئاسة المقبلة بعد سنتين، على الرغم من استخدامه السلاح المفضل لديه لإغواء البسطاء، والالتفاف على السخط الشعبى، وهو سلاح المال السعودى على وجه الخصوص، والمال الخليجى على وجه العموم، ليتعلم، أو لا يتعلم أنه توجد بالفعل أشياء لا تشترى، حتى لدى الأمريكيين المشهورين ببراجماتيتهم، لأن البرجماتية شىء، والانتهازية شىء آخر، والابتزاز شىء ثالث.
لم تكن قضيه خاشقجى وتذبذب موقف البيت الأبيض منها هى وحدها ما أظهر قوة الرأى العام الأمريكى فى مواجهة سياسات الكراهية والأنانية لليمين الأمريكى، وإنما جاءت حوادث بالغة الخطورة مثل الاعتداء الإرهابى العنصرى على المعبد اليهودى فى مدينة بيتسبرج بولايه بنسيلفانيا، وإرسال طرود ناسفة إلى كبار الزعماء الديمقراطيين ومعارضى ترامب الآخرين... جاءت هذه الحوادث لتروع (هذا الرأى العام) من بعث الروح المسممة لعصور العبودية والتفرقة العنصرية والمكارثية، وحقبة الحرب الفيتنامية، بعد أن ظن الجميع أنها ماتت وشبعت موتا. هنا لا يهم إن كان ترامب قد سلم بهذه الدلالات أم لا، فالرجل مثله مثل كل السياسيين الشعبويين فى الحاضر وفى الماضى دأب على المكابرة والإنكار، وعلى سبيل المثال، ففى الوقت الذى كانت مستشارته السياسية كيلين كونواى تنبه النواب الديمقراطيين الفائزين إلى أنهم لم ينتخبوا من أجل مقاومة الرئيس وعزله، فإنه كان يغرد على موقعه الالكترونى قائلا: «يا له من نجاح كبير هذه الليلة.. شكرا لكم».
مرة أخرى من المهم القول إن هذا الاحتفاء بنتائج الانتخابات النصفية الأخيرة لا يعنى أننا نخدع أنفسنا بأن الديمقرطيين حققوا انتصارا كبيرا من شأنه تغيير المعادلة السياسية فى الولايات المتحدة فى التو واللحظة، ونذكر بأننا نقوم هذه النتائج فى حدودها، وهى اليقين بأن قوى التقدم الأمريكية، وبالتالى قوى التقدم فى جميع الديمقراطيات الصناعية ليست عرضة لهزيمة شاملة ونهائية إلى أجل غير منظور، وأن صعود قوى الفاشية والعنصرية والشعبوية، والاستغلال الطبقى، لأسباب ظرفية لن يؤدى إلى انعكاس حركة التاريخ السائرة نحو التقدم والحرية والعدالة، منذ بدأ عصر التنوير، وربما منذ بدأ عصر النهضة. وماذا عن أثر هذه التطورات السياسية المهمة فى الولايات المتحدة على منطقتنا؟
لن يكون مفاجئا لأحد القول بأن هذه الآثار بدأت فى الظهور قبل أسبوع من يوم الانتخابات، ونقصد المبادرة الأمريكية لوقف إطلاق النار فى اليمن خلال ثلاثين يوما، والبدء فى مفاوضات سلام فى إطار الأمم المتحدة، وهى مبادرة أعلنت على لسان وزير الخارجية الأمريكية، وغنى عن القول أنه لولا قضية خاشقجى، وتداخلها مع الحملات الانتخابية فى الولايات المتحدة، لما كانت مثل هذه المبادرة لوقف حرب مضى على اندلاعها أكثر من 3 سنوات،
وتجسدت مآسيها الإنسانية أمام العالم كله، دون أن يهم الولايات المتحدة منها سوى مبيعات السلاح.
كذلك ليس من السهل توقع تراجع ترامب عن التشدد فى قضية الصحفى السعودى المقتول فى استانبول، خوفا – كما قلنا سابقا – على فرص إعادة انتخابه لفترة رئاسية ثانية، وعلينا أن ننتظر ردود فعل الجانب السعودى. وأخيرا يرد التساؤل حول مشروع صفقة القرن لتسوية الصراع العربى الإسرائيلى، بعد أن أثار الرئيس عبدالفتاح السيسى الشكوك حول وجودها أصلا، وكذلك التساؤل حول العقوبات الأمريكية المستأنفة ضد إيران، ترتيبا على قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق الدولى حول البرنامج النووى الإيرانى، والذى كان إنجازا بارزا للرئيس الأمريكى (الديمقراطى) باراك أوباما.
طبعا لا توجد إجابات قاطعة، ولكن المقطوع به أن ترامب الذى عرفناه لن يكون هو ترامب الذى سنراه فيما تبقى من رئاسته، سواء فى الداخل الأمريكى، أو فى الشرق الأوسط، أو الخليج، أو بقية أنحاء العالم.
نقلا عن الشروق