إذا حاولنا ــ اعتمادا على الذاكرة وحدها ــ أن نحصى عدد المجموعات الوزارية الاقتصادية التى تولت المسئولية فى مصر منذ بدء تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادى بعد حرب أكتوبر 1973 مباشرة، فكم سيبلغ هذا العدد تقريبا؟
لن يقل العدد عن خمس عشرة مجموعة منذ فريق الدكتور عبدالعزيز حجازى عام 1974، حتى مجموعة الفكر الجديد حول جمال مبارك قبل ثورة يناير 2011.
أما إذا تساءلنا عن عدد أساتذة وخبراء الاقتصاد الذين تولوا المسئولية فى إطار هذه المجموعات، فسوف يتجاوز العدد رقم المائة، وربما أكثر، فإذا أضفنا اليهم عدد من استوزروا بعد يناير 2011، وحتى اليوم فسوف تكون الخلاصة أن مصر ضربت رقما قياسيا لا تدانيه أى دولة فى العالم فى تجربة شتى المدارس والكوادر والخبرات، لحل مشكلتها الاقتصادية المزمنة، دون جدوى تذكر، فأين يوجد مكمن الداء؟ بما أنه من غير المعقول ــ بداهة ــ أنه لم يوجد بين أولئك جميعا من يستطيع ــ أو من يستطيعون ــ تشخيص الداء، ووصف الدواء، وقد كان منهم أساطين وأساطير فى علمهم، وخبراتهم، من طراز عبدالعزيز حجازى والقيسونى وإسماعيل صبرى عبدالله، وزكى شافعى، وأحمد أبو إسماعيل، وعلى لطفى، وغيرهم كثيرون.
هنا علينا أن نعود إلى أولى وأهم بديهيات علم الاقتصاد، وهى أن هذا العلم فى الأصل اسمه «الاقتصاد السياسى» أى أنه محكوم بالسياسة، بمعنى أن النجاح أو الفشل، يعودان إلى القرار السياسى، أكثر بكثير مما يعودان إلى الفنيات الاقتصادية البحتة، فالعطار لا يصلح ما أفسده الدهر، وكما نعلم فإن القرار السياسى فى النظام المصرى هو احتكار وامتياز لرئيس الجمهورية وحده بلا شريك أو رقيب، أو حسيب، لا من البرلمان، ولا من حزب حتى إذا كان هذا الحزب هو حزب الرئيس نفسه، ولا من رأى عام، وبالطبع ولا من مجلس وزراء، وهذا هو العرف السياسى والدستورى الأقوى من كل النصوص، والأعلى فوق كل المؤهلات والخبرات.
وإذا كنا قد اخترنا عام 1974 لنبدأ منه إحصاءنا لعدد المجموعات الوزارية التى تعاقبت على إدارة الاقتصاد المصرى، فليس المعنى أن ذلك العرف السياسى الذى يركز سلطة القرار فى يد رئيس الجمهورية ــ بما فى ذلك القرار الاقتصادى أو المؤثر بشدة فى الاقتصاد ــ لم يكن ساريا قبل ذلك، بل إنه من أهم خصائص نظام ضباط يوليو التى ولدت معه.
وقد كان جمال عبدالناصر مؤسس هذا النظام هو أول من بدأ سلسلة القرارات السياسية المهدرة للموارد، أو المدمرة للطاقات الاقتصادية، على الرغم من الطفرات التنموية التى تحققت فى حقبته، وكان يمكن أن تطرد، وتتسع، لولا تلك القرارات السياسية، وعلى رأسها التدخل العسكرى فى اليمن، وتأميم المشروعات المتوسطة والصغيرة، وحرب يونيو 1967.
فلقد أدت حرب اليمن إلى توقف خطط التنمية بعد الخطة الخمسية الأولى اليتيمة، وأدخلت الاقتصاد فى الدائرة الخبيثة للتضخم، بما تبعه من تدهور معيشة أصحاب الدخول الثابتة، وأدى تأميم المشروعات المتوسطة والصغيرة إلى حرمان الاقتصاد من تراكم رأس المال الوطنى اللازم للتوسع الاستثمارى، وكذلك إلى حرمان الاقتصاد من الخبرات الإدارية والتنظيمية، والتكنولوجية التى لا تقدر بثمن، والتى اكتسبها الرأسماليون والتكنوقراط المصريون من نظرائهم الأجانب، ممن كانوا يعملون فى مصر، أو من الدراسة والعمل فى الدول الغربية. أما هزيمة 1967 وما تلاها من حرب الاستنزاف، والاستعداد لحرب اكتوبر، ثم حرب أكتوبر نفسها ــ فإن تأثيراتها الخطيرة على مصر أشهر من أن تحتاج إلى شرح، لكن ربما يلخص هذه الآثار حقيقة أن مصر تحولت بعدها إلى دولة متلقية للمعونات الأجنبية بكثافة، ومن كل مكان فى العالم، القادر على مد يد المعونة أو الاقراض.
وفى عهد السادات، فقد كانت القرارات السياسية العليا هى التى وجهت الانفتاح وجهته الاستهلاكية المشهورة، ليستنزف الموارد الداخلية المحدودة، وكثير من أموال المعونات فى استيراد كل شىء عدا السلع الرأسمالية الانتاجية، وكما يذكر المخضرمون، فقد أطيح بالدكتور عبدالعزيز حجازى من رئاسة الحكومة، عندما حاول التصدى لطوفان الاستيراد الترفى، وكذلك أطيح بالدكتور زكى شافعى من وزارة الاقتصاد عندما حاول هو الآخر مثل ذلك.
وكان القرار السياسى أيضا هو السبب الأكبر فى تشويه القطاع العام الصناعى، وحرمانه من الإحلال والتجديد فى الآلات، ومن التوسع الاستثمارى، تمهيدا لتصفيته، وتحجيم الطبقة العاملة فيه، توجسا من شيوع الفكر اليسارى بين صفوفها، وقد كان ذلك إهدارا لثروة وطنية، وتبديدا لخبرات إدارية وتكنولوجية، لا يقل فداحة عما حدث من إهدار وتبديد بتأميم عبدالناصر للمشروعات المتوسطة والصغيرة، وكأنه مكتوب على مصر أن تبدد ثرواتها ومواردها سواء أخذت بالاشتراكية، أو أخذت بالرأسمالية!!
لكن الأضرار ذات المصدر السياسى للاقتصاد فى العهد الساداتى لم تقتصر على ما تقدم، وإنما صاحب ذلك كله قدر كبير من الفساد، الذى أطاح ــ بمساندة سياسية ــ بكل من حاولوا التصدى له، ليس فقط من الوزراء، كما رأينا فى حالتى حجازى وزكى شافعى، ولكن أيضا بالأجهزة والمؤسسات، على غرار قرار حل وإلغاء جهاز الرقابة الإدارية.
وجاء حسنى مبارك، وقد تحررت الأرض، ولم يعد يتعين على مصر أن تحارب أو تستعد لحرب، وتعهد هو بنفسه بتحويل الانفتاح الاستهلاكى إلى انفتاح إنتاجى، وعقد مؤتمرا اقتصاديا لهذا الغرض، ثم إذا به يترك ذلك كله، ويتفرغ لخصخصة المصانع والشركات العامة، موهما المجتمع بأنها سوف تباع لمن يعيدها إلى الإنتاجية الكفء القادرة على المنافسة، ولم يمض قليل من الوقت حتى اكتشف الجميع أن معظمها بيع بأثمان بخسة، وكثير منها استخدم فى الاستثمار العقارى لحساب المستثمرين الجدد وشركائهم، وكثير منها أضاع على الاقتصاد القومى صناعات بالغة الأهمية، وخبرات نادرة مثل شركة المراجل البخارية، وعلى أى حال لم ينته عهد مبارك إلا ومعظم قلاع الصناعة الوطنية فى حلوان وشبرا الخيمة، والمحلة الكبرى وكفر الدوار، وأسوان ونجع حمادى قد أفلست أو تكاد.
كذلك كانت القرارات السياسية هى السبب الذى لا سبب غيره فى كوارث إهدار مئات المليارات فى مشروعات وهمية، أبرزها وأقربها للذاكرة مشروع توشكى، ولكن قبله كان هناك مشروع فوسفات أبو طرطور، وحديد أسوان... الخ.
لكن كوارث القرار السياسى على الاقتصاد المصرى تحت حكم حسنى مبارك لا يكتمل عرضها دون التطرق إلى العبث الذى طال الجهاز المصرفى، وأوشك أن يعصف به، لدرجة أن الرئيس تدخل بنفسه لمناشدة مجلس الشعب تأجيل مناقشة استجواب حول أوضاع هذا الجهاز، حماية له من الانهيار إذا ظهرت حقائق المجاملات والصفقات السياسية فى منح القروض، وفتح الاعتمادات، وهو ما تبلور بعد ذلك فى ظهور طبقة أو فئة رأسمالية المحاسيب.
وأخيرا أتذكر أن الخبراء تباروا للتحذير من تصدير الغاز المصرى للخارج، أولا لأن كمياته محدودة، وثانيا لحاجة مصر إليه فى التنمية الصناعية، ولكن الرئيس كان يجوب العالم لتوقيع عقود تصديره من إسبانيا إلى إسرائيل.
ما الجديد الآن فى علاقة القرار السياسى بالاقتصاد؟
لقد مرت الفترة الدستورية الأولى من رئاسة الرئيس عبدالفتاح السيسى بحلوها ومرها، وكان القرار السياسى فيها مهيمنا على القرار الاقتصادى من حيث أولويات الإنفاق وتخصيص الموارد، وهكذا اتخذ قرار حفر التفريعة الجديدة لقناة السويس، وقرار إنشاء العاصمة الجديدة، وغيرها مثل العلمين الجديدة، وجبل الجلالة، وسمعنا لأول مرة مصطلح الإنفاق خارج الميزانية العامة، فهل تكون الفترة الرئاسية السابقة هى آخر العهد بهذا النوع من القرارات السياسية التى تشل الاقتصاد وتحرف مساره، وتكون الفترة الرئاسية الجديدة هى بداية للعهد المأمول؟!
بالمناسبة: أين تكمن بالضبط مسئولية الشعب المتهم بالكسل والإسراف والطمع فى كل تلك المآسى وغيرها؟ هل الشعب هو الذى اتخذ كل القرارات السابقة، أو حتى أستشير فيها؟! وهل يصح عقلا، أو يجوز أخلاقيا تبكيت المواطنين على شكواهم من الارتفاع المتوالى لتكاليف المعيشة؟
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع