بقلم - عبد العظيم حماد
لم يعد خافيا أن أهم جوانب استراتيجية الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى الشرق الأوسط قد تمزقت كل ممزق، وقد يتمزق ما بقى منها متماسكا حتى الآن مع بدء الدورة البرلمانية الشتوية، فى الولايات المتحدة، أى مع بدء انعقاد الكونجرس ذى الأغلبية الديمقراطية المعارضة فى مجلس النواب يوم 20 يناير المقبل.
فقد أصبح مشروع صفقة القرن للسلام العربى الإسرائيلى الشامل مجرد حلم (وربما هلوسة) من الماضى، والرجل الذى الذى بشر مرة بمجرد إعلان فوزه، ومرة أخرى بمجرد دخوله المكتب البيضاوى بصفقة لم يفكر فيها أحد من قبل، وتشمل العديد من الدول، ومساحات كبيرة من الأراضى، هو نفسه الذى غرد على «تويتر» قائلا إن السلام قد لا يتحقق أبدا فى الشرق الأوسط، ومن الجانب العربى نفى الرئيس عبدالفتاح السيسى وجود هذه الصفقة كمشروع من الأصل، وقال إنها لم تكن أكثر من تعبير اعلامى.
أما ما تحقق على الأرض من استراتيجية ترامب فى القضية الفلسطينية الإسرائيلية فلم يكن سوى قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وقطع المعونة الأمريكية للسلطة الفلسطينية، ووقف المساهمة المالية الأمريكية فى ميزانية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطيينين!!
بموازاة هذا الفشل فقد تحطم ــ أو كاد أن يتحطم ــ أيضا مشروع الحلف السنى العربى – الإسرائيلى ضد إيران، والذى يبدو لنا أن مصر لم تكن متحمسة له، وكانت تجاريه اعلاميا فقط، وقد تعددت المعاول التى هدمت هذا المشروع، فكان الإخفاق فى حرب التحالف العربى ضد الحوثيين وحليفهم الإيرانى فى اليمن أحد هذه المعاول، و ضاعف من الأثر الهدام لهذا المعول على خطة التحالف السنى العربى الاسرائيلى ضد يران انقلاب الرأى العام الأمريكى، ثم الكونجرس على الحرب السعودية الإماراتية فى اليمن، ما أدى إلى اقتياد الأطراف إلى محادثات سلام فى السويد كما يعرف الجميع، ولا جدال فى أن تصدع مجلس التعاون الخليجى بسبب حصار قطر، ونفور الكويت من الاملاءات، ولا مبالاة سلطنة عمان كان من أسباب عرقلة الاجماع الخليجى على الانخراط فى ذلك التحالف.
ثم يلى ذلك فى أحداث المفعول نفسه انتصار التحالف الايرانى ــ الروسى فى سوريا، وإخفاق عملية ارتهان سعد الحريرى رئيس وزراء لبنان فى الرياض، وكذلك إخفاق الرهان والتحريض على ضربة إسرائيلية ساحقة لحزب الله بصفته أقوى حلفاء إيران فى مواجهة إسرائيل.
وبعد مرور أكثر من أسبوعين حتى الآن على عملية الجيش الاسرائيلى فى منطقة الحدود الشمالية لتدمير أنفاق حزب الله الهجومية عبر هذه الحدود، وبعد الإخراج المسرحى الذى نفذه رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو من مبنى وزارة الدفاع بحضور رئيس أركان الجيش و كل القادة، وقال فيه إن كل شىء قد حسب حسابه، وأن العملية تشتمل على مراحل تتضمن القتال داخل العمق اللبنانى، وأيضا بعد اجتماع الساعات الثلاث الدراماتيكى فى بروكسل بين نتنياهو ورؤساء أجهزة المخابرات من جانب وبين مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكى، يبدو أن هذه العملية سوف تكتفى بتدمير الأنفاق ولن تتطور قريبا إلى هدفها الأصلى، وهو تدمير القوة العسكرية، خاصة الصاروخية لحزب الله، تمهيدا لتوجيه الضربة الأخيرة والفاصلة لإيران، سواء فى العمق الإيرانى، أو فى فى الأراضى السورية، دون قلق من انتقام صاروخى فى العمق الإسرائيلى ينفذه حزب الله.
لاشك أن قوة الردع لدى حزب الله هى من أسباب هذا الاحجام المفترض، كذلك يصح الافتراض أن عدم تهيئة الجبهة الداخلية اللبنانية للاصطفاف ضد حزب الله فى مثل هذه المعركة من بين تلك الأسباب، لكن أيضا لا يصح استبعاد أثر الوجود العسكرى الروسى الكثيف فى سوريا من الحساب، إذ لا يمكن ضمان صمت أو حياد روسيا فى مواجهة موسعة بين اسرائيل وإيران تشمل مساحات واسعة من الأراضى السورية.
لكن الأكثر تأثيرا بالسلب أو الهدم على مشروع التحالف السنى /الإسرائيلى تحت الرعاية الأمريكية ضد إيران كان ولا تزال مضاعفات قضية مقتل الصحفى السعودى جمال خاشقجى داخل قنصلية بلاده فى مدينة إسطنبول التركية، وبالتأكيد فإن أخطر هذه المضاعفات هو انقلاب الكونجرس إلى حد الثورة ضد العلاقة الخاصة بين البيت الأبيض، والقيادة السعودية، ومن قبله انقلاب الرأى العام الأمريكى ضد هذه العلاقة إلى حد أجبر ترامب أكثر من مرة على تغيير مواقف معلنة، وكان آخرها التراجع عن لقاء ولى العهد السعودى فى قمة بيونيس أيرس لمجموعة العشرين، كما كان قد أعلن هو نفسه قبلها.
قبل أن نستطلع الأثر المتوقع.. بل المؤكد ــ لمجلس نواب ذى أغلبية ديمقراطية معارضة بشراسة لمجمل سياسات ترامب الداخلية والخارجية، على السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط، جنبا إلى جنب مع مجلس الشيوخ ذى الأغلبية الجمهورية الذى بادر بإصدار قرار مضاد للبيت الأبيض فى قضية خاشقجى، كما نعرف،.. قبل ذلك لابد من تسجيل أن الجانب الذى بقى متماسكا حتى الآن من استراتيجية الرئيس ترامب فى الشرق الأوسط، هو الانسحاب من الاتفاق النووى الدولى مع إيران، وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية عليها، ومن ثم اضطرار عدد مؤثر من الشركات الأوروبية والصينية للانسحاب من السوق الايرانية، حفاظا على العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة.
الآن إلى توقع الأثر المحتمل لدورة الكونجرس الشتوية بتشكيله الجديد على السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط.
إلى جانب التنقيب المتعمق الذى تعهد به الرؤساء المقبلون للجان المعنية فى مجلس النواب فى كل جوانب هذه السياسة، الشخصى منها، والمالى، والمخابراتى، والعسكرى، فإن الديمقراطيين يميلون بطبيعة ايديولوجيتهم الليبرالية الى تناول الأوضاع الداخلية فى مختلف دول العالم، سيما الدول ذات العلاقة الخاصة مع واشنطن، أى تلك المهمة للأمن القومى الأمريكى، أو تلك التى تشترى أسلحة أمريكية، كذلك الدول المتلقية للمعونات الاقتصادية والمالية من الولايات المتحدة، فلا شك أن الديمقراطيين الأمريكيين أكثر اهتماما من الجمهوريين بقضايا حقوق الإنسان، وحقوق الاقليات، والإدماج السياسى، والحد من النزاعات المسلحة، فإذا لم تكف هذه الدوافع الأغلبية الديمقراطية فى مجلس النواب الأمريكى لتناول الأوضاع الداخلية فى دول الشرق الأوسط، والضغط على البيت الأبيض بشأنها، فهناك الدافع الحزبى القوى، أى مناوأة ترامب ذاته، أو مكايدته على حد تعبير مشهور لستيف بانون، المنظر الأيديولجى للظاهرة الترامبية، ذلك أن الرجل نفسه ــ أى ترامب ــ هو الذى بادر إلى إضفاء الطابع الشخصى والعائلى، والمزاج الفردى على الحياة السياسية الأمريكية، وعلى العلاقات الدولية، بأكثر مما تحتمله النظم الديمقراطية، وبأكثر من اللازم.
وبالطبع فمن الوارد بقوة أن تمتد هذه «المكايدة» لتشمل أصدقاء ترامب المفضلين فى الخارج مثل رئيس الوزراء الاسرائيلى، وولى العهد السعودى، والرئيس الروسى فلاديمير بوتين على وجه الخصوص.
لكن التوقعات حول الشتاء العربى الأمريكى لا تكتمل دون التساؤل عن قدرة الرئيس على مقاومة مجلس نواب مناوئ، وكذلك رأى عام أمريكى ودولى مستاء.. ومناوئ أيضا فى كثير من الأحيان.
لاشك أن الرئيس ترامب لديه نزعة التحدى، والقدرة الشخصية على المقاومة، ولكن ثبت أن على هذه القدرة قيود، ولتلك النزعة حدود، والشاهد الأبرز على ذلك هو سلسلة تراجعاته فى قضية خاشقجى تحت ضغط الرأى العام وضغوط الكونجرس، وهو ما أشرنا إليه آنفا، كما أن الرجل ضعف كثيرا بسبب ما كشف حتى الآن من تورط رجاله ــ ان لم يكن تورطه هو شخصيا – فى التلاعبات الروسية الالكترونية فى حملة انتخابات الرئاسة، التى أوصلته إلى البيت الأبيض، وكذلك فى مخالفات مالية للتستر على فضائحه الشخصية، كل ذلك جنبا إلى جنب مع الانقسامات الحادة فى إدارته وفى فريق البيت الأبيض نفسه، وهى انقسامات وصلت إلى حد تبادل الشتائم علنا مع بعض كبار الإدارة والفريق.
أما إذا صدقت التسريبات الأخيرة من أن الرئيس نفسه أسرَّ إلى بعض المقربين منه أن احتمال توجيه اتهام إليه بالتواطؤ مع الروس فى الحملة الانتخابية أصبح واردا بقوة، فليست استراتيجية فى الشرق الأوسط هى التى سيكتمل تمزقها فقط، وإنما أيضا أشياء وأوضاع أخرى كثيرة.
إنه شتاء له ما بعده، خصوصا فى منطقتنا المشرعة أمام الضغوط والغوايات والتدخلات الأمريكية.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع