بقلم - عبد العظيم حماد
كبير.. جديد.. موسع.. ناتو عربى.. وأخيرا إسلامى سنى ينطلق من العاصمة البولندية وارسو (التى سبق ومنحت اسمها للحلف العسكرى للكتلة الشيوعية فى حقبة الحرب الباردة) فى فبراير المقبل، بمشاركة دولية واسعة، كما أنبأنا مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكية، فى خطابه الأخير بالقاهرة، دون أن يحدد الدول غير الشرق أوسطية المدعوة.
لمن يتذكرون ومن لا يتذكرون، على السواء «فالجديد» و«الكبير» و«الموسع» كانت كلها عناوين بمشروعات أمريكية للشرق الأوسط، مضافا إليها عناوين فرعية، مثل الفوضى البناءة، ووصفة ناتان شارانسكى الوزير الإسرائيلى المهاجر من روسيا للتحول الديمقراطى الإجبارى فى الدول العربية، ثم الارتباط البناء بين الولايات المتحدة، وبين جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، وفروعها فى كل أنحاء العالم.
لا نظن أن أحدا يحتاج منا إثباتا للفشل المتعاقب لكل هذه المشروعات، لكن من المهم أن نذكر المبتهجين بخطاب بومبيو الأخير من أقطاب ورعاة ومنتفعى الثورات المضادة فى عموم المنطقة أن كل تلك المشروعات والسياسات التى أشرنا إليها توا كانت سابقة على مجىء الرئيس باراك أوباما وإدارته إلى الحكم، بل إن الارتباط البناء مع الإخوان المسلمين كان قرارا مباشرا من كوندليزا رايس وزيرة خارجية الرئيس بوش الابن عام 2007، وأما الذى بشر بوصفة شارانسكى باعتبارها برنامجه فى الشرق الأوسط فهو رئيسها بوش نفسه.
كعادتنا ليس الهدف هو استعراض الماضى، وإنما القصد هو الاستدلال على التخبط المزمن للسياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط، وعلى أن أسباب هذا التخبط فى الماضى لا تزال فاعلة فى الحاضر، وستبقى فاعلة فى المستقبل، لأسباب رئيسية منها ما يخص المنطقة، ومنها ما يخص الجانب الأمريكى.
ما يخص المنطقة فهو التناقض الأصيل بين نظم الحكم، وبين تطلعات الشعوب واستحقاقات العصر، فإذا اختارت واشنطن مساندة الحكومات بذريعة الاستقرار، فإنها تؤجج كراهية الشعوب، وأما إذا اختارت مساندة التحول الديمقراطى، على نحو ما ادعاه بوش الابن، وروجت له كوندليزا رايس فى خطابها فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة عام 2005، وعلى نحو ما حاولته إدارة أوباما فى أثناء ما سمى بالربيع العربى، فإن ذلك يستنفر الحكومات والطبقات النافذة والعائلات الحاكمة ضد هذه السياسة، مما يتسبب فى خلخلة الأوضاع، ويولد الإرهاب.
ومما يخص المنطقة من أسباب تعثر أو فشل المشروعات الأمريكية المتوالية لشرق أوسط جديد أو كبير أو موسع المقاومة الإسرائيلية الناجحة دائما للتسوية العادلة للقضية الفلسطينية، غير أن هذا النجاح المطرد للمقاومة الإسرائيلية للتسوية الفلسطينية العادلة هو فى ذاته أهم الأسباب الأمريكية الذاتية لهذا الفشل المطرد أيضا.
تستحق هذه النقطة الأخيرة مزيدا من الشرح، إذ كلما تعثرت مبادرة أمريكية للسلام العادل بين إسرائيل والفلسطينين، بسبب الرفض الإسرائيلى، ونفوذ اللوبى الصهيونى، إذا بالدبلوماسية الأمريكية تحاول القفز فى كل مرة فوق هذه العقبات بطرح مشروعات على نطاق إقليمى أكبر كثيرا، على أمل تحويل التركيز عن حقوق الفلسطينين، أو تذويب القضية الفلسطينية فى قضايا أوسع منها جغرافيا، واقتصاديا، واستراتيجيا.
كان ذلك هو ما فعله المحافظون الجدد فى إدارة بوش الابن، استغلالا لهجمات 11سبتمبر 2001 الإرهابية على واشنطن ونيويورك، وقد سمعت بأذنى من مسئولين مصريين وألمان كبار التقوا بالرئيس الأمريكى فى أعقاب تلك الهجمات أن الخلاصة التى توصل إليها هى ضرورة الحل العادل للقضية الفلسطينية، وأنه وجه سبابا نابيا لآرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، عندما عارض بوقاحة تلك الخلاصة التى توصل إليها بوش، ليفاجأ العالم بالرئيس الأمريكى يفتعل ذرائع لغزو العراق ثم يغزوه، ما دفع يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا فى ذلك الوقت إلى أن يقول فى شجار علنى مع دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكى حينذاك، وأمام مؤتمر ميونيخ للأمن الدولى: «لقد انتظرناكم فى فلسطين كما اتفقتم معنا، فإذا بكم تفاجؤننا بأنكم ذاهبون إلى العراق».
لا يبعد عن هذا النهج، وإن كان يتجاوزه إلى التماهى أو التطابق التام مع السياسة الإسرائيلية الاختيار الاستراتيجى للرئيس الأمريكى الحالى دونالد ترامب، ورجاله الحاليين، خاصة جون بولتون مستشاره للأمن القومى، ومايك بومبيو وزير الخارجية، الذى شرح هذا الاختيار الاستراتيجى بوضوح تام فى خطابه الأخير بالقاهرة، وفى سائر أحاديثه ومحادثاته فى عواصم المنطقة الأخرى، مبتدئا الإجراءات التنفيذية لتدشين الحلف الإسلامى السنى بمشاركة إسرائيل، ومن يرغب من دول العالم فى مواجهة إيران، دون أدنى اهتمام بالقضية الفلسطينية، وذلك بالدعوة إلى مؤتمر على مستوى وزراء الخارجية، لهذا الغرض فى فبراير المقبل، فى العاصمة البولندية كما سبقت الإشارة.
من المؤكد أن ترامب ورجاله يراهنون على تركيز العواصم الخليجية على خطر النفوذ الإيرانى المتزايد، لكنهم يراهنون أيضا على أن المشكلات الداخلية لكثير من القيادات فى العواصم العربية الكبرى تدفع هذه القيادات إلى استرضاء واشنطن وتل أبيب، فهل سينجح مشروع حلف وارسو الإسلامى؟ أم سيلقى مصير كل من مشروع الشرق الأوسط الجديد، أو الكبير أو الموسع؟
بطبيعة الحال فإن جزءا كبيرا من الإجابة يتوقف على مصير الرئيس ترامب نفسه، الذى إن نجا من العزل، أو لم يجبر على الاستقالة من جراء تواطئه المفترض والمتعدد الجوانب مع الروس، فإنه قد لا يعاد انتخابه، وحتى ذلك الحين فإن صراعه مع الكونجرس، وتناقض سياسته الشرق أوسطية ما بين سحب قواته من سوريا، وأفغانستان، والعراق، وما بين القيادة الأمريكية المقترحة لحلف وارسو الإسلامى الإسرائيلى ضد إيران، قد لا تسفر فى نهاية المطاف سوى عن مبادرة علاقات عامة تجمع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، الذى يشغل منصب وزير الخارجية أيضا بأكبر عدد ممكن من وزراء الخارجية العرب والمسلمين علنا، وذلك كدعم سياسى للرجل قبيل الانتخابات العامة فى إسرائيل فى إبريل المقبل، وذلك مقابل مساعدة حلفاء نتنياهو فى اللوبى الصهيونى الأمريكى لإنقاذ ترامب من مآزقه الكثيرة.
من محددات الإجابة أيضا على السؤال حول إمكانية نجاح مشروع ذلك الحلف ضد إيران النتيجة النهائية التى ستسفر عنها المعركة الدائرة حاليا داخل الولايات المتحدة حول حركة بى.دى.اس. لمقاطعة إسرائيل، وهى حركة تزداد قوة، خاصة فى الجامعات، وفقا لرسالة تلقيتها من الزميل محمد السطوحى مشكورا من واشنطن، الذى أضاف فى رسالته أن حملة اللوبى الصهيونى ضد هذه الحركة لم تحقق المطلوب على المستوى الشعبى والإعلامى، فاتجهت للضغط السياسى لاستصدار قوانين من برلمانات الولايات بتجريم مقاطعة إسرائيل، تمهيدا لاستصدار قانون فيدرالى بهذا المضمون، وهو ما يهدد بإثارة انقسام عميق جدا فى الرأى العام الأمريكى، وبين السياسيين، خوفا على حرية الرأى.. والسلوك والمعتقد السياسيين، فضلا عن مضاعفاته القانونية والقضائية.
كذلك فمن محددات الإجابة أيضا، وربما كان أهم المحددات عدم استساغة الرأى العام فى المنطقة ككل لفكرة الانضواء فى تحالف تقوده أمريكا وإسرائيل، ضد إيران، حتى مع رفض كثير من جوانب السياسة الإيرانية.
أخيرا ومن خبرة شخصية فلم يكن فى خطاب بومبيو فى القاهرة، ولهجته، وهيئته ما فاجأنى، أو ما جعلنى أحذر من مغبة أقواله، إذ سبق لى رؤية مثل هذه الغطرسة والثقة فى التحكم فى الأحداث من بول فولفو ويتز، وريتشارد بيرل من زعماء المحافظين الجدد فى ميونخ وبرلين، ومن رامسفيلد وكوندليزا رايس كما سبق القول فى القاهرة وميونخ، بل ومن جورج بوش الابن نفسه، وهو يصرح من على سطح حاملة طائرات فى الخليج بزيه العسكرى: «لقد أنجزت المهمة»، متباهيا باحتلال بغداد، ليعود جميع مؤيديه، وفى مقدمتهم تونى بلير رئيس وزراء يريطانيا الأسبق فيقروا ويعترفوا بأن غزو العراق كان خطأ فادحا، بل إن أحد كبار مروجى السياسة الأمريكية من الكتاب المصريين الذى دافع بحرارة عن قرار غزو العراق، عاد وكتب بمناسبة وفاة الرئيس جورج بوش الأب أن بوش الابن لم يكن حكيما كأبيه، والدليل هو تورط الابن فى غزو العراق، الذى لم يستفد منه طرف أكثر من إيران، وامتناع الأب عن دخول الأراضى العراقية بعد تحرير الكويت.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع