ينبغى أن لا تفوتنا ملاحظة أن أحدا لم يتهم أعضاء جماعة الإخوان المسلمين بأنهم المتسببون فى تحول هطول السيول على التجمع الخامس وضواحيه إلى كارثة، مثلما قيل إنهم سدوا البلاعات بكتل خرسانية، فتسببوا فى كارثة سابقة مماثلة فى الاسكندرية والبحيرة.
لم يقل بذلك أحد هذه المرة لأ من التنفيذيين، ولامن المعلقين الصحفيين والاعلاميين، ولا من المتداخلين على الشبكة الاجتماعية، وهذا تطور إيجابى مهم، ليس لأن الإخوان لا يوجد بين صفوفهم الكثيرون من أهل الشر، ممن يرتكبون العنف والإرهاب، والتحريض، ولكن لأن العقل المصرى الجمعى أصبح لا يستسيغ أساليب التهرب من المسئولية، وإنكار الأخطاء واختلاق الذرائع غير المعقولة، وغير القابلة للتحقق من مصداقيتها، وهذه كلها أمراض متوطنة فى جهازنا الإدارى، ذات جذور عميقة، فى النظام السياسى الذى أقامه ضباط يوليو 1952، وليست وليدة اليوم، أو الأمس القريب، وعليه فالجديد فى التناول العام لكارثة التجمع الخامس الأخيرة هو الوقوف أمام الحقيقة العارية وجها لوجه، ودون مواربة، وهى ضعف أو انعدام كفاية الجهاز الادارى، وفساده، وكذلك فشل معظم جهود الاصلاح المحدودة، وعدم كفاية الأساليب المتبعة حتى الآن فى مكافحة الفساد، مع كل التقدير الواجب لهذه الجهود، وللنيات الطيبة المحركة لها.
فى أوائل ثمانينيات القرن الماضى، زار مصر خبير من منظمة الصحة العالمية لتقويم نظامنا الصحى، وتقديم المشورة للمسئولين عن هذا القطاع، لضمان تمتع المواطن المصرى بأفضل خدمة صحية فى حدود الموارد المتاحة، وبعد شرح كل الجوانب الفنية للموضوع لمجموعة ضيقة من الصحفيين والمهتمين «غير الرسميين» على مائدة عشاء، فاجأنا الرجل بقوله: اتركوا كل هذا جانبا الآن.. وأجيبونى على سؤال واحد: ما هو تعريفكم لنظامكم السياسى؟
ولما كنا فى أوائل ثمانينيات القرن الماضى ــ كما سلف القول ــ فقد كان لدينا رئيس جديد فى مصر هو حسنى مبارك، ونعلم أنه جاء فى أعقاب اغتيال سلفه فى خاتمة مأساوية لعام أو أكثر من التوتر الحاد فى البلاد، ولما كان مبارك قد تعهد بأحداث تحولات مهمة فى الحياة السياسية، وفى المناخ العام، فقد جاءت الإجابات على سؤال الخبير الدولى متفائلة، ودارت كلها حول معنى أن النظام السياسى المصرى الآن فى مرحلة انتقالية من شمولية ومركزية جمال عبدالناصر، ومن تعددية السادات المتعثرة، إلى ديمقراطية موجهة تحت حكم مبارك، يمكن أن تتحول مع مضى السنوات إلى ديمقراطية أقل توجيها، وأقل مركزية، وإن لم يكن من المتوقع أن تتحول قريبا إلى الديمقراطية المتعارف عليها فى المجتمعات التى سبقتنا على هذا الطريق، منذ عقود، وربما منذ قرون.
بدا لنا أن الضيف لم يقتنع بهذه الاجابات، ثم انطلق ليجيب هو قائلا: إن نظامكم السياسى لا يخضع لأى تعريف أو توصيف علمى متفق عليه فى العلوم السياسية، وإنما هو أقرب إلى أن يكون: single departmental system، وترجمتها الأقرب والأدق: هى انه نظام مركزى يقوده الفرد الرئيس أو المدير فى السياسة والاقتصاد والخدمات والمرافق العامة، من أكبر مؤسسة فى الدولة إلى أصغر مؤسسة أو وحدة إدارية، وفى استخدامه لمصطلح departmental، إشارة إلى غلبة المفهوم البيروقراطى على سائر المفاهيم فى إدارة الشأن العام، أى هى إدارة خالية من الحس السياسى، المتمثل فى وجود قنوات للتفاعل مع المواطنين المعنيين، وفى توقع المساءلة ليس أمام رئيسه الإدارى الأعلى فقط، وإنما أمام هيئات تمثيلية لهؤلاء المواطنين، ولموظفى المؤسسة أو العاملين فيها، وأمام الرأى العام، وذلك بالطبع إلى جانب أن معايير اختيار المسئولين، وعزلهم، ليس فيها من السياسة شىء، إلا الولاءات الشخصية، أو ما اعتدنا فى مصر على تسميته بتقديم أهل الثقة على أهل الخبرة.
ومن ثم فلا مساءلة، ولا مسئولية عن وضع وتنفيذ السياسات، وتخصيص الموارد، وتغيير الأولويات، إلا فى أحوال استثنائية وبالطريق الادارى، وهذه لا تؤسس قواعد إدارة رشيدة وذات كفاءة، كنمط عام، وهذا هو أصل مشكلات القطاع الصحى، وكل القطاعات، كما رآها الضيف.
ولتبيان علاقة توصيف الخبير الدولى فى سياسات الخدمة الصحية العامة (مع الانتباه لأهمية كلمة سياسات فى هذه الجملة) بالكارثة التى وقعت فى التجمع الخامس أخيرا، وما سبقها من كوارث، تغنى القصة التالية عن أية شروح نظرية، ففى أحد أوائل التجمعات السكنية الحديثة والشهيرة فى ضواحى القاهرة، اتفق مجموعة من الملاك على دعوة زملائهم إلى اجتماع عام يختار لجنة منهم، لتمثيلهم أمام الشركة، وأمام ادارة المكان، وذلك للفت نظر الادارة إلى أية أوجه للقصور، وللمشاركة فى تحديد مستحقات الصيانة السنوية، ومراجعة أوجه إنفاقها، وكذلك مراجعة أوجه استخدام الوديعة الجماعية، التى فرضت المساهمة فيها على كل مالك عند تعاقده، إلى غيرذلك من شئون المعيشة المشتركة فى حى سكنى ذى طبيعة خاصة، كما اقترح المبادرون إصدار مجلة محلية شهرية لتحقيق التواصل والشفافية، وكان ذلك بالطبع قبل شيوع شبكة الانترنت.
وقد أخطر أصحاب الدعوة إدارة التجمع، كما أخطروا الشركة بهذه النية، فرفضت الجهتان الفكرة من حيث المبدأ، ودون إبداء الأسباب، وعندما أبدى القائمون على التحرك، ومعهم أغلبية الملاك عدم اقتناعهم بهذا الرد، وقرروا المضى قدما فى خططهم، استخدمت الشركة نفوذها القوى جدا فى ذلك الوقت لاستعداء سلطات الدولة، التى منعت عقد الاجتماع، وأجهضت التحرك، ليظل كل أحد بمفرده أمام الإدارة سواء فى الشركة أو فى «الكومباوند»، وليبقى نمط العلاقة بين هذا الفرد، وبين الإدارة هو الإذعان فى جانب، والتسلط من الجانب الآخر.
وبالطبع فالجميع يعلمون أن هذا هو الحال فى سائر التجمعات، والقرى السياحية، والمنتجعات الصيفية، مثلما هو الحال أيضا فى سائر المرافق، ومؤسسات أو هيئات الخدمة العامة، بل أيضا وفى الشركات الاستثمارية الخاصة مثل شركات الهواتف المحمولة، وشركات خدمة الانترنت، وكذلك فى الهيئات القائمة بأموال المواطنين كهيئة التأمين والمعاشات، والهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية، فضلا عن امتداد هذه الممارسات عن طريق عدوى العرف الفاسد إلى كثير من الشركات المساهمة فى القطاعين العام والخاص، فلا صوت إلا صوت المدير، ولا إرادة تعلو فوق إرادته، ليس فقط فى نطاق اختصاصه المحدد بالقانون، ولكن أيضا فى الحقوق التى يكفلها القانون نفسه للمواطنين المتعاملين مع المرفق أو الهيئة أو الشركة، وكذلك فى حقوق العاملين والمساهمين.
فى هذا الوضع القائم على فردية مذعنة فى التعامل مع مؤسسة هى بطبيعتها كيان قوى، تسيره إرادة فردية قاهرة، ومع مضى السنوات، ورسوخ العادة، وشيوع النمط: يتحول العيش المشترك من حالة المجتمع المنظم إلى حالة التجمع العشوائى، أو إلى قطيع بشرى، كل شخص فيه مشغول بهمومه المباشرة، ومسئول عن شئونه الخاصة، يركز على حماية مصالحه، ولو علي حساب الآخرين، ومن هنا نشأت الأمراض الاجتماعية والنفسية التى يقول الخبراء إنها طرأت على المصريين، بما يخالف تراثهم الحضارى، فمن هنا الحقد والأنانية واللا مبالاة، وانعدام النخوة، وضمور تقاليد التضامن الشعورى والاجتماعى، بالإضافة إلى الكوارث المتلاحقة، التى بسببها نكتب هذه السطور، والناجمة عن عجز وترهل وفساد الجهاز الادارى، والادارة العامة.
استغفر الله العظيم الذى يقول فى كتابه الكريم: «وكلهم آتيه يوم القيامة فردا».
لكن ذلك هو الله جل جلاله... وفى يوم القيامة فقط.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع