توقيت القاهرة المحلي 22:01:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لا بركة فى المدينة اليوم

  مصر اليوم -

لا بركة فى المدينة اليوم

بقلم - مىّ الإبراشى

أتنقل بين قنوات اليوتيوب وصفحات الإنترنت لأسافر إلى مدن جميلة ورحيبة ــ جميعها تتمسك بما تبقى من ماضيها ــ تحتفى به وتنمقه وتضيف إليه لتخلق حياة كريمة لسكانها. نوع من الهروب لا جدوى منه. فكلما حاولت أن ألهى فكرى عما يضايقنى كلما ذكرتنى أشكال هذه المدن بما يضايقنى. فأسرح فى خفة دم لشبونة وحيوية مراكش وأناقة باريس ودفء إسطنبول وأرى القاهرة. وأتأمل جنون برلين وحلاوة كولومبو وإبهار طوكيو وفرادة كيتو وأرى القاهرة. 

لن تجد بلادا جديدة، لن تجد ضفة ثانية،
هذه المدينة ستطاردك. سوف تمشى
فى الشوارع نفسها، تشيخ فى الأحياء نفسها،
ستُصْبَغ رماديا فى هذه المنازل نفسها.
سينتهى بك المآل دائما إلى هذه المدينة. لا تتأمل أشياء فى مكان آخر:
ليس ثمة سفينة لأجلك، ليس ثمة طريق.
بينما كنت تبدد حياتك هنا، فى هذا الركن الصغير،
دمرتها فى كل مكان آخر من العالم.
(قنسطنطين كفافيس ــ المدينة)

لا سبيل للهروب من القاهرة. لا سبيل للهروب مما نفعله بالقاهرة. نتجاهل فرادتها وندير ظهرنا على كل ما تهبه لنا من ماضٍ متأهج مجنون يفيض بالحياة. نختار ألا نراه. نقرر أن نعبر بنظرنا وفكرنا بعيدا لنحتضن ثقافات اللا ثقافة ــ ثقافات المال والأعمال والمكسب السريع. نجرى وراء نداهة الحداثة الظاهرية ــ ناطحات السحاب والمولات والفيلات المسورة. ناسين أن الحداثة الحقيقية ترتكز إلى سلسلة من الفكر والفلسفة أساسها كرامة الإنسان وأن كرامة الإنسان ترتكز إلى هويته وأن الهوية ترتكز إلى التاريخ والتراث.

لقد سئمت من الحديث والكتابة حول المفهوم المستديم فى التعامل مع المدن ــ خاصة مدن التراث. فالحسبة بالنسبة لى واضحة. المدينة مورد نملكه نحن سكان المدينة. لهذا المورد أوجه كثيرة. المدينة موقع وأرض وخصائص طبيعية ومبانٍ وطرق وناس ومهن وحرف ومعارف وقدرات مثلها فى ذلك مثل أى تجمع سكنى مهما كانت بساطته ــ مثلها مثل القرية والنجع. لكن ما يميزها هو تراكم هذه الموارد لتصنع تاريخا وتراثا وقيمة وشخصية. لهذه السمات قيمة اقتصادية واجتماعية تعلو بها إلى مستويات ترقيها عن القرى والنجوع. لا يتم احتساب هذه القيم كما يحتسب السمسار أو المقاول قيمة قطعة أرض فى التجمع الخامس. فجمال حمدان حينما كتب عن شخصية مصر لا عن القيمة العقارية لمصر وأنا هنا أتحدث عن شخصية القاهرة ــ لا عن القيمة العقارية للقاهرة. 

للبيع....
قطعة أرض فى موقع متميز على النيل بوسط مصر مساحتها خمسمائة كيلومتر مربع.
قابلة للهدم وإنشاء برج سكنى وتجارى أو فندق أو قصر.
***
مثلى مثل غيرى. فزعت عندما سمعت عن البدء فى هدم مثلث ماسبيرو. مثلى مثل غيرى. فندت الظروف والتبريرات. المنطقة تراثية لكنها ليست بأهمية وسط البلد أو جاردن سيتى من حيث القيمة التاريخية للمعمار. المنطقة نسبة كبيرة منها ملك مستثمرين لهم الحق فى تطويرها والاستفادة منها. موقعها متميز على النيل. تبريرات واهية خاصة أن الدولة ــ فى عصر د. ليلى إسكندر كوزيرة للعشوائيات ــ كانت قد وضعت تصورا مدروسا متوازنا للتطوير وليس الهدم الكامل والإخلاء. لكنها تبريرات اتعكز عليها فى محاولة أن أحافظ على ما تبقى من أمل فى أن القاهرة التى نعرفها باقية وأنها لن تتسرب تماما من بين أيدينا. والآن تأتى إلينا أخبار مد منطقة الهدم والإخلاء لتشمل مبانى تراثية بعضها مسجل من قبل جهاز التنسيق الحضارى. مبان شبيهة بمبانى وسط البلد التى تحتفى بها محافظة القاهرة وترممها على بعد أمتار قليلة. لكن كل ذنب مبانى بولاق أنها ترى النيل وأنه يتم تقديرها كأرض عقارية لا كمبانٍ تراثية. ويحاول عقلى أن يستمر فى التبرير ليحمى نفسه من الإحباط. يحاول ويفشل.

الإسكان غير الرسمى (غير المخطط)
1. مناطق تم بناء مجموعات من الوحدات السكنية بها على أراضٍ لا يملكها السكان ولا حق لهم فى اشغالها. 
2. مستوطنات ومناطق غير مخططة غير مطابقة لقوانين التخطيط والبناء.
(Glossary of Environment Statistics، Studies in Methods، Series F، No. 67، United Nations، New York، 1997.)
أتصور أن من ضمن من يقرأون هذا المقال الآن قارئ نابه يقف عند كلمة (عشوائيات) التى وردت فى المقطع السابق ويتساءل ما دخل وزارة العشوائيات (والتى عادت صندوقا لتطوير العشوائيات داخل وزارة الإسكان) فى منطقة مثلث ماسبيرو. فمثلث ماسبيرو مثله مثل القاهرة التاريخية وبولاق منطقة يقطنها أغلب السكان بصفة قانونية على أرض مخصصة للسكنى. قد يسبق تخطيط بعض أجزائها قوانين التخطيط الحالية لكن هذا حال جميع المناطق التى نشأت قبل عصر الحداثة. ووجب على المخطط والمشرع صياغة اللوائح والقوانين المناسبة للنمط المعمارى والعمرانى الخاص بها. فلا نستطيع مثلا أن نطبق قوانين البناء والعمران الحديثة على جامع أثرى مثل جامع أحمد بن طولون فنشترط أن يوفر مناطق انتظار سيارات لسعته التى تبلغ ثلاثين ألف مصلٍ أو شارع تاريخى مثل شارع المعز فنوسعه ليسمح بمرور أتوبيسات النقل العام. بل علينا أن نشرع قوانين مناسبة تحد من ارتفاعات المبانى الحديثة فى هذه المناطق وتوفر التسهيلات لترميم البيوت القديمة وتقنن دخول المرور مثلا.
***
لكن قد يتفاجأ البعض حين يعرف أن مثلث ماسبيرو كان مسجلا عشوائيات كمناطق غير آمنة من الدرجة الثانية مثله مثل عدد من المناطق التاريخية مثل عرب اليسار (الواقعة أسفل قلعة صلاح الدين والجارى هدمها حاليا) والحطابة وإسطبل عنتر. جميع هذه المناطق مناطق تاريخية متهالكة بعضها غير آمن وبعضها سليم وجميعها تاريخى. جميعها ذو قيمة جمالية وعمرانية واقتصادية واجتماعية ترتكز إلى تاريخها وعمرها وعلاقة سكانها الأصيلة بها. جميع هذه المناطق التاريخية تحتاج إلى تدخل من الدولة. لكن ليس من المنطق أن يتم التعامل معها كعشش عشوائية لا تاريخ لها استوطنها سكانها من عشرة أو عشرين سنة ــ ولا أقلل هنا من شأن المناطق غير الرسمية أو من حق سكانها فى تقنين البقاء بها لو كانت آمنة وآدمية لكن أتحدث عن منهجيات أساسية فى التدخل العمرانى والتخطيط. فالسياسة العامة للتعامل مع المناطق العشوائية غير الآمنة من الدرجة الأولى هى الإخلاء والإزالة والسياسة العامة للتعامل مع المناطق من الدرجة الثانية ــ وهى موضوعنا اليوم ــ قد يكون الإزالة أو التطوير. وما أطرحه هنا هو أن هذه المناطق قد تكون غير آمنة ولكنها ليست عشوائية وأن لها قيمة تاريخية وبالتالى لا خيار عن التطوير ولا خيار عن الالتزام بمنهجيات الارتقاء بالمناطق والمجتمعات التاريخية التى تؤكد على منع الهدم أو الإخلاء وعلى الحفاظ على التراث الملموس (مبانى ــ شوارع ــ أشجار) وغير الملموس (حرف ــ عادات ــ تقاليد). 
ولمن قرأ لى مقالا سابقا يعرض لأفكار مماثلة أعتذر عن التكرار. فالمشهد متكرر ورد الفعل متكرر رتيب يبعث على الملل والإحباط. لكن الجديد هنا هو ما ورد عن مد مشروع ماسبيرو ليشمل مبانى آمنة وتاريخية ومرخصة ومسجلة طرازا معماريا متميزا ــ فقط لقيمتها العقارية. فالموضوع هنا تعدى الخلاف حول منهجيات التخطيط والعمران ليدخل فى حيز التدمير المتعمد للتاريخ. 
***
الخاتمة الأولى من خواتيم عديدة محتملة
عَفَتِ الدِيَارُ مَحَلُهَا فَمُقَامُهَا بِمِنى تَأَبَدَ غَوْلُهَا فَرِجَامُهَا
(لبيد بن ربيعة العامرى)
العام القادم أكمل خمسا وعشرين عاما من العمل فى مجال الحفاظ المعمارى بدأته وأنا طالبة فى السنة الثانية بكلية الهندسة قسم العمارة. مثلى مثل غيرى. أحاول أن أقاوم الإحباط وأن أستمر فى العمل. مثلى مثل غيرى. أستيقظ كل يوم على خبر هدم قطعة جديدة من تراثنا الذى لا يقدر بثمن ولن يعوض. مثلى مثل غيرى. أتناقش وأتحاكى عن الخبر ثم أتناساه لأنتقل للتحاكى عن خبر آخر مثله. أمل من صوت الكلمات ــ من شكل الحروف. أزهق من البكاء على الأطلال. يقول المثل الإنجليزى (إذا قذفتك الحياة بالليمون اصنع الليمونادة). أفكر أن أحتفل بالخمس وعشرين سنة خدمة بأن أحول مسارى المهنى لأصبح شاعر نيو ــ جاهلى يبكى على الأطلال.
الخاتمة الثانية من خواتيم عديدة محتملة
الأمل ينبع دائما فى صدر البشر
لا بركة فى الإنسان اليوم لكنه مبارك غدا وأبدا لا محالة
(الكساندر بوب ــ بتصرف)
العام القادم أكمل خمسا وعشرين عاما من العمل فى مجال الحفاظ المعمارى بدأته وأنا طالبة فى السنة الثانية بكلية الهندسة قسم العمارة. أتعاون من خلال عملى مع وزارة الآثار ومحافظة القاهرة وجهاز التنسيق الحضارى وغيرها من الجهات الحكومية. كل يوم يزداد احترامى لأغلبية من أتعامل معهم من موظفى الدولة. فهم يعملون تحت ظروف قاسية ويحاولون على قدر المستطاع أن يؤدوا عملهم أسوة بالمثل الإنجليزى (إذا قذفتك الحياة بالليمون أصنع الليمونادة). جميعنا نؤمن بضرورة الصمود والمقاومة. جميعنا نؤمن بالتاريخ وبما تعلمناه منه بأن الشعوب والأوطان تستطيع أن تنهض مهما كانت الكبوة وبأن النهوض يكون على أيدى من اختار الصمود ــ أو على الأقل على أيدى جيل جديد حول الصمود إلى إبداع ونهوض. لذلك قلبى لا يطاوعنى أن أنهى المقال على نغمة تشاؤم. أحترم محافظ القاهرة وفريق عمله فى مجال التراث على المستويين المهنى والشخصى وأرى مشاريعهم بوسط البلد ومناطق سوق السلاح والخليفة بالقاهرة التاريخية بقعا من نور فى واقع يزداد ظلاما وأتصور أنه ما زال هناك براح من الأمل أن يجنح أكثر إلى سياسات تتحيز للتراث والتاريخ وتقدر قيمتهما كمورد اجتماعى واقتصادى.
رئيس مجلس إدارة جمعية الفكر العمرانى ومنسق مبادرة الاثر لنا
الاقتباس 
فمثلث ماسبيرو مثله مثل القاهرة التاريخية وبولاق منطقة يقطنها أغلب السكان بصفة قانونية على أرض مخصصة للسكنى. قد يسبق تخطيط بعض أجزائها قوانين التخطيط الحالية لكن هذا حال جميع المناطق التى نشأت قبل عصر الحداثة. ووجب على المخطط والمشرع صياغة اللوائح والقوانين المناسبة للنمط المعمارى والعمرانى الخاص بها.

نقلا عن الشروق القاهريه

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لا بركة فى المدينة اليوم لا بركة فى المدينة اليوم



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 08:05 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 18 نوفمبر /تشرين الثاني 2024

GMT 10:55 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

دوناروما يؤكد ان غياب مبابي مؤثر وفرنسا تملك بدائل قوية

GMT 09:55 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 08:31 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:27 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

هند صبري بإطلالة أنثوية وعصرية في فستان وردي أنيق

GMT 04:33 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونسكو تعزز مستوى حماية 34 موقعًا تراثيًا في لبنان

GMT 13:08 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نيمار يشتري بنتهاوس بـ 200 مليون درهم في دبي

GMT 07:25 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزالان بقوة 4.7 و4.9 درجة يضربان تركيا اليوم

GMT 03:12 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

ليليا الأطرش تنفي تعليقاتها عن لقاء المنتخب السوري

GMT 18:33 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ميا خليفة تحضر إلى لبنان في زيارة خاصة

GMT 14:47 2019 السبت ,09 شباط / فبراير

الحضري على رأس قائمة النجوم لمواجهة الزمالك

GMT 11:13 2018 الأربعاء ,11 إبريل / نيسان

ما وراء كواليس عرض "دولتشي آند غابانا" في نيويورك
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon