توقيت القاهرة المحلي 05:32:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عزيزى السائح

  مصر اليوم -

عزيزى السائح

بقلم - مىّ الإبراشى

عنوان كتيب صغير تصدره دار نشر محلية فى مدينة فينيسيا بإيطاليا. ودار النشر هذه متخصصة فى إصدارات عن تاريخ المدينة – عن مكانة فينيسيا كأشهر مدينة تراث فى العالم مثلا ــ عن جمالها الرومانسى الأخاذ أو عن الإعجاز الهندسى فى تطويع الطبيعة وتحويل مستنقع من فتافيت الجزر إلى مدينة التجارة الأولى فى العصور الوسطى الدنيا المعمارية والفنية.

وقد يلتقط السائح هذا الكتيب ويتصفحه متوقعا أن يجد به كلمات ترحيب – ربما إرشادات عن كيفية التعامل مع شوارع المدينة المتشابكة الضيقة فيفاجأ بدراسة علمية مستفيضة عن أهمية تخفيض معدل السياحة فى فينيسيا. نعم... فأغلب سكان فينيسيا يريدون سياحة أقل وليس أكثر. قد يقل اندهاشه حينما يعرف أن متوسط عدد السياح اليومى للمدينة يزيد عن عدد سكانها الستين ألفا. وقد يرى البعض أن هذا مدعى للاحتفاء وليس الشكوى وذلك لعائده الاقتصادى. لكن يجب وضع تحفظين هامين فى الاعتبار: الأول أن نسبة كبيرة من السياح يزورون المدينة ليوم واحد فقط. فيأتون على متن بواخر بحرية ضخمة ترسو ليوم واحد ليتدفق منها سيل من السياح متوجهين كالقطيع لزيارة ميدان سان ماركو وشراء الهدايا من محال معينة ثم الإسراع بالرحيل. فلا يستفيد منهم إلا قلة قليلة من سكان فينيسيا ربما يتقاسمون الربح مع العاملين على البواخر والمرشدين. بل والأدهى من ذلك أن هذه البواخر بحجمها الضخم تتسبب فى قلقلة النظام البيئى للجزر والقنوات المحيطة بل وتهدد سلامة المبانى التاريخية. أما السبب الثانى فهو شكوى السكان من تحول جميع موارد المدينة لإدارتها سياحيا فحسب وتوجيه الشباب فقط نحو مجال السياحة ما يتسبب فى هجرة معظم من لا يريد العمل بالسياحة خارج فينيسيا، فتجدها مدينة طاردة لشبابها تفقد حوالى ألفين من سكانها سنويا.

***

ففينيسيا قد تحولت إلى ما يسميه الخبراء بفقاعة السياح (tourist bubble) وفقاعات السياح هى الأماكن فى مدن التراث التى تم إعادة صياغتها لتفى باحتياجات السائح والسائح وحده. فتلفظ سكانها الأصليين وتتحول إلى مسخ مدينة – مبانيها جميلة وشوارعها نظيفة – تعج بالبازارات والمطاعم السياحية ولكن تفتقر إلى أبسط متطلبات الحياة اليومية – فلا تجد بها منافذ للخدمات أو محال البقالة أو القهاوى التقليدية. وهذه ظاهرة يسميها البعض (disneyfication) أو تحول مناطق التراث إلى ما يشبه مدينة ديزنى – ربما يكون أقرب مثال مصرى هو مدينة الإنتاج الإعلامى – قشور خارجية من حوائط وأسقف وأرضيات لا حياة بها. والمسمى المهذب عندنا فى مصر هو (متحف مفتوح). فتجد المسئولين – فى محاولة حسنة النية لكن غير مدروسة لتنظيف المدن التاريخية وتهذيبها لجعلها أكثر ترحابا بالسياح وعملتهم الصعبة – يحتفون بفكرة تحويل القاهرة التاريخية أو مدينة تراثية مثل الأقصر إلى متحف مفتوح الغرض الأساسى منه استقبال السائح وليس تزويد المواطنين بمتطلبات الحياة اليومية وتحسين الخدمات.

وكانت نتائج دراسة أجرتها منظمة اليونسكو عام 2006 عن حالة 94 من 830 موقع تراث عالمى مقلقة للغاية؛ حيث جاءت فينيسيا رقم 90 ووصف أحد الخبراء حالتها كالتالى:

(الإحساس الطاغى هو انطباع عام بتحلل المدينة ما يدفع الزائر للندم على المجيء لشعوره بالضلوع فى هذا التدهور. ولا يستطيع السائح أن يلمح ولو جزءا طفيفا من الحياة الحقيقية للسكان فالجميع مهموم بأخذ كل ما يستطيع أخذه من السائح).

لذا تجد أن السياح نفسهم يملون من هذا النوع من المدن. ففى بحثهم عما وراء هذا الستار الزائف قد يشترون دليل المدينة السرى (Secret Venice). هذا الكتاب يلفت نظرك لأشياء قد تفوت عليك كزائر عابر ــ رسمة صغيرة على حائط أو شجرة ذات حكاية أو بائع متجول لا يستطعم أكله إلا سكان المدينة. وكونه جزءا من سلسلة تتناول أهم مدن العالم السياحية يعتبر دليلا على أن قطاعا كبيرا من السياح لا يستسيغون ما يعرض أمامهم من مدينة مجهزة لاستقبالهم واستضافتهم دون غيرهم من سكان أو زوار ليسوا بسياح. السائح يسافر ليهرب لحظيا لعالم آخر يخرجه عن المألوف. وحينما تصبح المدن التاريخية مألوفة ومتكررة – لأنها تتبع وصفة واحدة مقاديرها المبانى التاريخية المفرغة من السكان والبازارات التى تعج بالهدايا التذكارية والمطاعم والقهاوى السياحية والابتسامات المزيفة على أوجه باعة ومرشدين يقولون نفس الكلام بنفس الابتسامة كل يوم ــ تصبح التجربة مألوفة ومتكررة. ويتم تفريغ السفر من معناه ــ فلا مكان للمحتمل أو المفاجئ، لا مكان للقاء غير مرتب مع مواطن عادى تتلاقى الأرواح فيه رغم الاختلاف، لا مكان لبعض من قبح الحياة اليومية مألوف لكنه غريب فى نفس ذات الوقت، لا مكان لطعام لا تعرف أصله وفصله أو توهان مؤقت فى شوارع غريبة مثير فى أنه يقلقك أو لحكايات ما بعد العودة عن مغامرة غير متوقعة أو مشكلة انتهت على خير.

***

إذن فالمشكلة تكمن فى التالى، السياحة غير المقننة ليست من مصلحة الآثار ــ فهى تدمرها ــ ولا من مصلحة المدينة؛ حيث تفرغها من الحياة، ولا من مصلحة السكان، حيث لا يستفيد منها إلا قلة قليلة بل وتحرمهم من حقهم فى مدينتهم ــ بل أنها وعلى المدى البعيد تتسبب فى عزوف السياح عن زيارة المدن التاريخية لافتقادها الروح وتحولها إلى مسخ مألوف وممل. وقد يبدو هذا المقال مستفزا فى ظل ما نعانيه من فقر سياحى فى مصر لكنه ضرورى؛ لأنه من المتعارف أن يتم استغلال فترات الركود السياحى فى تطوير الخدمات السياحية استعدادا لانفراج الأزمة والملحوظ فى مصر أن السائد هو توجيه الخدمات للسياح وليس للسكان وتفريغ محيط الآثار من الحياة اليومية وتشجيع استبدال الخدمات العادية بالخدمات السياحية.

بل إن أكبر وأهم فقاعة سياح لدينا – منطقة أهرامات الجيزة – من أكثر الأماكن إيذاء للسياح حيث يشتكون مر الشكوى من الاستغلال والنصب والإيذاء النفسى ممن يسيطرون على هذه المنطقة. بل وتجد أن أكثر الروايات الإيجابية عن مصر لابد وأن يأتى الذكر بها للقاءات جميلة وبسيطة بمصريين عاديين سمحوا للسياح بالدخول إلى حياتهم اليومية.

يتبارى العلماء الآن فى تطوير التكنولوجيا الافتراضية والتى تمكنك من زيارة موقع التراث وأنت جالس على كنبة بيتك تتنقل براحتك مع الشرح والإيضاح. وتجد بلادا مثل الصين تبنى مدنا كاملة بها نسخة طبق الأصل من مدن تراثية عالمية. فيمكنك أن تزور الهرم وبرج إيفل الصينى دون أن تتكبد متاعب السفر. لكن ما لا يمكن استنساخه هو التجربة الإنسانية – هو ما تجده أنت من أسرار وأنت تهيم بالمدينة تتعرف على خباياها وتلتقى بسكانها. فى ظل عالم يتشابك افتراضيا ويتباعد إنسانيا. هذا هو مستقبل السياحة.


نقلا عن الشروق القاهرية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عزيزى السائح عزيزى السائح



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon