توقيت القاهرة المحلي 12:33:22 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عزيزى السائح

  مصر اليوم -

عزيزى السائح

بقلم - مىّ الإبراشى

عنوان كتيب صغير تصدره دار نشر محلية فى مدينة فينيسيا بإيطاليا. ودار النشر هذه متخصصة فى إصدارات عن تاريخ المدينة – عن مكانة فينيسيا كأشهر مدينة تراث فى العالم مثلا ــ عن جمالها الرومانسى الأخاذ أو عن الإعجاز الهندسى فى تطويع الطبيعة وتحويل مستنقع من فتافيت الجزر إلى مدينة التجارة الأولى فى العصور الوسطى الدنيا المعمارية والفنية.

وقد يلتقط السائح هذا الكتيب ويتصفحه متوقعا أن يجد به كلمات ترحيب – ربما إرشادات عن كيفية التعامل مع شوارع المدينة المتشابكة الضيقة فيفاجأ بدراسة علمية مستفيضة عن أهمية تخفيض معدل السياحة فى فينيسيا. نعم... فأغلب سكان فينيسيا يريدون سياحة أقل وليس أكثر. قد يقل اندهاشه حينما يعرف أن متوسط عدد السياح اليومى للمدينة يزيد عن عدد سكانها الستين ألفا. وقد يرى البعض أن هذا مدعى للاحتفاء وليس الشكوى وذلك لعائده الاقتصادى. لكن يجب وضع تحفظين هامين فى الاعتبار: الأول أن نسبة كبيرة من السياح يزورون المدينة ليوم واحد فقط. فيأتون على متن بواخر بحرية ضخمة ترسو ليوم واحد ليتدفق منها سيل من السياح متوجهين كالقطيع لزيارة ميدان سان ماركو وشراء الهدايا من محال معينة ثم الإسراع بالرحيل. فلا يستفيد منهم إلا قلة قليلة من سكان فينيسيا ربما يتقاسمون الربح مع العاملين على البواخر والمرشدين. بل والأدهى من ذلك أن هذه البواخر بحجمها الضخم تتسبب فى قلقلة النظام البيئى للجزر والقنوات المحيطة بل وتهدد سلامة المبانى التاريخية. أما السبب الثانى فهو شكوى السكان من تحول جميع موارد المدينة لإدارتها سياحيا فحسب وتوجيه الشباب فقط نحو مجال السياحة ما يتسبب فى هجرة معظم من لا يريد العمل بالسياحة خارج فينيسيا، فتجدها مدينة طاردة لشبابها تفقد حوالى ألفين من سكانها سنويا.

***

ففينيسيا قد تحولت إلى ما يسميه الخبراء بفقاعة السياح (tourist bubble) وفقاعات السياح هى الأماكن فى مدن التراث التى تم إعادة صياغتها لتفى باحتياجات السائح والسائح وحده. فتلفظ سكانها الأصليين وتتحول إلى مسخ مدينة – مبانيها جميلة وشوارعها نظيفة – تعج بالبازارات والمطاعم السياحية ولكن تفتقر إلى أبسط متطلبات الحياة اليومية – فلا تجد بها منافذ للخدمات أو محال البقالة أو القهاوى التقليدية. وهذه ظاهرة يسميها البعض (disneyfication) أو تحول مناطق التراث إلى ما يشبه مدينة ديزنى – ربما يكون أقرب مثال مصرى هو مدينة الإنتاج الإعلامى – قشور خارجية من حوائط وأسقف وأرضيات لا حياة بها. والمسمى المهذب عندنا فى مصر هو (متحف مفتوح). فتجد المسئولين – فى محاولة حسنة النية لكن غير مدروسة لتنظيف المدن التاريخية وتهذيبها لجعلها أكثر ترحابا بالسياح وعملتهم الصعبة – يحتفون بفكرة تحويل القاهرة التاريخية أو مدينة تراثية مثل الأقصر إلى متحف مفتوح الغرض الأساسى منه استقبال السائح وليس تزويد المواطنين بمتطلبات الحياة اليومية وتحسين الخدمات.

وكانت نتائج دراسة أجرتها منظمة اليونسكو عام 2006 عن حالة 94 من 830 موقع تراث عالمى مقلقة للغاية؛ حيث جاءت فينيسيا رقم 90 ووصف أحد الخبراء حالتها كالتالى:

(الإحساس الطاغى هو انطباع عام بتحلل المدينة ما يدفع الزائر للندم على المجيء لشعوره بالضلوع فى هذا التدهور. ولا يستطيع السائح أن يلمح ولو جزءا طفيفا من الحياة الحقيقية للسكان فالجميع مهموم بأخذ كل ما يستطيع أخذه من السائح).

لذا تجد أن السياح نفسهم يملون من هذا النوع من المدن. ففى بحثهم عما وراء هذا الستار الزائف قد يشترون دليل المدينة السرى (Secret Venice). هذا الكتاب يلفت نظرك لأشياء قد تفوت عليك كزائر عابر ــ رسمة صغيرة على حائط أو شجرة ذات حكاية أو بائع متجول لا يستطعم أكله إلا سكان المدينة. وكونه جزءا من سلسلة تتناول أهم مدن العالم السياحية يعتبر دليلا على أن قطاعا كبيرا من السياح لا يستسيغون ما يعرض أمامهم من مدينة مجهزة لاستقبالهم واستضافتهم دون غيرهم من سكان أو زوار ليسوا بسياح. السائح يسافر ليهرب لحظيا لعالم آخر يخرجه عن المألوف. وحينما تصبح المدن التاريخية مألوفة ومتكررة – لأنها تتبع وصفة واحدة مقاديرها المبانى التاريخية المفرغة من السكان والبازارات التى تعج بالهدايا التذكارية والمطاعم والقهاوى السياحية والابتسامات المزيفة على أوجه باعة ومرشدين يقولون نفس الكلام بنفس الابتسامة كل يوم ــ تصبح التجربة مألوفة ومتكررة. ويتم تفريغ السفر من معناه ــ فلا مكان للمحتمل أو المفاجئ، لا مكان للقاء غير مرتب مع مواطن عادى تتلاقى الأرواح فيه رغم الاختلاف، لا مكان لبعض من قبح الحياة اليومية مألوف لكنه غريب فى نفس ذات الوقت، لا مكان لطعام لا تعرف أصله وفصله أو توهان مؤقت فى شوارع غريبة مثير فى أنه يقلقك أو لحكايات ما بعد العودة عن مغامرة غير متوقعة أو مشكلة انتهت على خير.

***

إذن فالمشكلة تكمن فى التالى، السياحة غير المقننة ليست من مصلحة الآثار ــ فهى تدمرها ــ ولا من مصلحة المدينة؛ حيث تفرغها من الحياة، ولا من مصلحة السكان، حيث لا يستفيد منها إلا قلة قليلة بل وتحرمهم من حقهم فى مدينتهم ــ بل أنها وعلى المدى البعيد تتسبب فى عزوف السياح عن زيارة المدن التاريخية لافتقادها الروح وتحولها إلى مسخ مألوف وممل. وقد يبدو هذا المقال مستفزا فى ظل ما نعانيه من فقر سياحى فى مصر لكنه ضرورى؛ لأنه من المتعارف أن يتم استغلال فترات الركود السياحى فى تطوير الخدمات السياحية استعدادا لانفراج الأزمة والملحوظ فى مصر أن السائد هو توجيه الخدمات للسياح وليس للسكان وتفريغ محيط الآثار من الحياة اليومية وتشجيع استبدال الخدمات العادية بالخدمات السياحية.

بل إن أكبر وأهم فقاعة سياح لدينا – منطقة أهرامات الجيزة – من أكثر الأماكن إيذاء للسياح حيث يشتكون مر الشكوى من الاستغلال والنصب والإيذاء النفسى ممن يسيطرون على هذه المنطقة. بل وتجد أن أكثر الروايات الإيجابية عن مصر لابد وأن يأتى الذكر بها للقاءات جميلة وبسيطة بمصريين عاديين سمحوا للسياح بالدخول إلى حياتهم اليومية.

يتبارى العلماء الآن فى تطوير التكنولوجيا الافتراضية والتى تمكنك من زيارة موقع التراث وأنت جالس على كنبة بيتك تتنقل براحتك مع الشرح والإيضاح. وتجد بلادا مثل الصين تبنى مدنا كاملة بها نسخة طبق الأصل من مدن تراثية عالمية. فيمكنك أن تزور الهرم وبرج إيفل الصينى دون أن تتكبد متاعب السفر. لكن ما لا يمكن استنساخه هو التجربة الإنسانية – هو ما تجده أنت من أسرار وأنت تهيم بالمدينة تتعرف على خباياها وتلتقى بسكانها. فى ظل عالم يتشابك افتراضيا ويتباعد إنسانيا. هذا هو مستقبل السياحة.


نقلا عن الشروق القاهرية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عزيزى السائح عزيزى السائح



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:05 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
  مصر اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon