بقلم - نادين عبدالله
شهدنا منذ أيام قليلة خطابًا تاريخيًا للرئيس الفرنسى، تعقيبًا على المظاهرات الممتدة التى هزت أنحاء فرنسا. وعلى الرغم من تأييد ما يقرب من نصف الفرنسيين للخطاب٬ وفقا لاستطلاعات الرأى الأخيرة٬ فإن رافضيه انقسموا ما بين معترض على التنازلات التى قدمها ماكرون، على اعتبار أنها قد تفتح بابًا لابتزاز النظام، فى حين وجدها آخرون غير معبرة عن تغيير حقيقى فى جوهر السياسات المتبعة. ووجهة نظرنا هى أنه يحسب لرئيس فرنسا أمران مهمان:
أولاً٬ إدراكه عمق الأزمة الاقتصادية، فهو لم يكابر، بل أنصت لصوت المحتجين٬ وأقر بسوء أحوالهم المعيشية٬ فاعترف بعدم عدالة بعض سياساته الضريبية، بل اعتذر عن وصف البعض سابِقًا بالمدلل أو الكسول. والحقيقة أن الرئيس وحكومته يجدان نفسيهما بين سندان اقتصاد فرنسى مأزوم تناقصت فاعليته على مدار عشرات السنين٬ ومطرقة ضغوط اجتماعية قوية لفئات ساءت ظروفها المعيشية بشكل ملحوظ. الأول يتطلب إصلاحات اقتصادية مؤلمة لجعل الاقتصاد الفرنسى أكثر رشاقة٬ والثانية تتطلب التوسع فى إجراءات الحماية الاجتماعية وزيادة الأجور والمعاشات، على الرغم من العبء الذى تشكله على ميزانية الدولة. وهنا كان الحل المقترح هو التصميم على إلغاء الضريبة على ثروة الأغنياء من كبار رجال الأعمال وغيرهم لتشجيعهم على الاستثمار فى فرنسا٬ مع زيادة الحد الأدنى للأجور وإلغاء الضرائب المفروضة على الأقل دخلا لتحسين ظروفهم ولو قليلاً.
ثانيًا٬ فهمه لأزمة النظام السياسى العميقة فى فرنسا٬ والتى كان أحد تجلياتها وصوله أصلاً إلى السلطة متحديًا كل الأحزاب والقوى السياسية القديمة- كما اعترف بنفسه فى خطابه- لضعف حضورها فى الشارع. أما تجليها الثانى فهو بالضبط بزوغ حركة السترات الصفراء٬ تلك التى نظمت نفسها من خارج الأحزاب والنقابات التى ضعفت قدرتها على تمثيل المجتمع الفرنسى والتعبير عنه. لذا فقد أكد شروعه فى إجراءات تفتح الباب لخلق قنوات تواصل جديدة بين المجتمع (بمحتجيه ومتظاهريه) وبين الدولة، للبدء فى حوار يهدف إلى صياغة عقد اجتماعى جديد. وهو بالضبط ما يتطلبه أى مجتمع يمر بأزمة وهن اقتصادى٬ وضعف قنوات التمثيل السياسى، بما يجعل ما كان مقبولاً للبعض سابقا غير متفق عليه حاليا بالنسبة لآخرين.
والحقيقة أن التنازلات التى قدمها ماكرون لو لم تفتح الباب لتغييرات عميقة فى النظام الفرنسى، فستكون قدمت له على الأقل صمامًا للأمان. فما يبدو للبعض ضعفًا هو قوة٬ وما يبدو لآخرين صلابة ليس سوى طريق للانكسار.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع