بقلم : نادين عبدالله
شهدت مصر الجديدة حركة تغيير جذرى فى عمرانها لم تشهدها منذ عشرات السنين. واليوم يستمر مسلسل تغيير هويتها بمبادرات حكومية تسعى إلى إنهاء جزء من تراثها الحضارى عبر إنشاء كوبرى يخفى كنيسة البازيليك الجميلة بمعمارها المبهر. الهدف من ذلك هو تحقيق السيولة المرورية، ولكنه أمر غير مفهوم إلى حد كبير، فهذه الأخيرة قد تحققت بالفعل بعد التغييرات العمرانية الأخيرة بكلفة عالية جدًا، فكان ضحيتها جمال هذا الحى بمساحاته الخضراء التى تشعرك بالدفء والتناغم.
وللأسف، ما حدث فى قلب مصر الجديدة يمتد اليوم إلى أطرافها، حيث قرارات القضاء على أغلب المساحات الخضراء فى عدة شوارع رئيسية بمنطقة مساكن شيراتون الراقية. والحجج نفسها مستمرة: تحقيق السيولة المرورية حتى ولو على أنقاض متنفس الهواء النظيف الوحيد فى هذه المنطقة الجميلة، فما يبدو ظاهرًا هو أن إعمال الجمال فى المساحات العامة ليس من أولويات الدولة، فلو أردت العيش فى بيئة نظيفة، ولو أحببتَ أن تستمتع بوجود مساحات خضراء ومناظر مريحة للعين، فيمكن أن تحصل على ذلك فى المساحات الخاصة (فى الكومباوندز، فى الفيلات، فى النوادى الخاصة... إلخ)، أما المساحات الخضراء العامة فليست مهمة، وكأن خصخصة الجمال واعتياد القبح أمر طبيعى.
أعرف أن القبح والجمال أمران نسبيان، إلا أن أهل المكان هم مَن لهم حق تحديد ملامح هذا الجمال، هذا الذى ترسخ فى أذهان سكانها وعموم المواطنين بارتباطه بمساحات خضراء جميلة (باتت غائبة عن القاهرة على أى حال)، ومساحات ممهدة للمشاة (تعطى جمالًا وألفة فى بلد لا تجد فيه رصيفًا سليمًا يصلح للمشى عليه)، وهى اختفت الآن، فتكبدت مصر الجديدة خسائر حقيقية فى الأرواح، بعد ارتفاع معدل الحوادث بشكل غير مسبوق.
فعليًا، علاقة أهل أى حى به هى علاقة عميقة، يرتبط فيها السكان ليس بمكان مصمت، بل بذكريات وأفكار وعواطف تربطهم بكل منطقة فيه، فهذه المساحة المسكونة تصير جزءًا منهم، وهم يضحون قطعة منها. وبما أن هذه العلاقة الإنسانية لها هذا الامتداد الزمنى والمكانى فقرار تغيير أبعادها يتطلب التشاور مع المعنيين بالأمر، ولا يمكن أن يأتى نتاجًا لقرارات فردية حتى لو كان الهدف هو السيولة المرورية، فتحقيق الأخيرة أيضًا له سبل وتصورات عديدة ومختلفة، من ثَمَّ فإن تفضيل خيار على آخر لابد أن يستند إلى رأى أهل المنطقة وأصحاب الحى أنفسهم، فلا يُفرض عليهم فرضًا.