بقلم - نادين عبدالله
هو ثمن باهظ يدفعه الجميع بلا استثاء؛ ليس فقط النظام الذى تسبب فيها لكن أيضًا المجتمع الذى حرم منها غالبًا٬ وشرعنها أحيانًا. السياسة هى وسيلة وليست غاية فى ذاتها. وهى ببساطة أداة المجتمع للتعبير عن نفسه٬ ووسيلة النظام لتجديد شرعيته٬ ووسيلة السلطة للتواصل مع الناس من منطلق شرعية الاقتناع لا القوة. فلو لم تكن القنوات السياسية مهمة لما آمنت بها المجتمعات٬ ولما اعتنقتها الدول المتقدمة٬ ولما سمعنا عن علماء فى العلوم السياسية والاجتماعية.
والحقيقة أننا وجدنا أنفسنا فى مصر فى السنوات الماضية أمام نظام آثر إغلاق المجال العام بشكل غير مسبوق. ففرص التعبير عن الرأى تتاح للمؤيدين فى أوسع الحدود٬ ولذوى الأصوات النقدية أو المعارضة فى أضيقها. أما الساحة السياسية والإعلامية فهى مفتوحة على مصراعيها أمام «المطبلاتى» والمؤيد بعقل؛ وشبه مغلقة أمام من أطلق عليه البعض لقب «المقللاتى». ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أغلقت أيضًا قنوات التواصل السياسى الطبيعية فى أى مجتمع، سواء كانت كيانات سياسية أو حزبية أو نقابية؛ أو حتى مبادرات شبابية نقدية؛ فشعرت كتل مجتمعية واسعة بأن صوتها غير مسموع٬ وأن حقها فى التعبير عن نفسها تم إهداره.
وأمام مجال عام مغلق بالضبة والمفتاح٬ اختار البعض أن يهلل بلا وعى متبعًا مقولات تردد هنا أو هناك: «احنا مجتمع ميجيش غير كده»٬ «مفيش حاجة اسمها ديمقراطية فى بلادنا»؛ فى حين انزوى كثيرون ممن انخرطوا سابقًا فى عمل مجتمعى أو سياسى٬ وتقوقع آخرون فهجروا العمل العام للتركيز على ساحة العمل الخاص. وكانت النتيجة هى غياب أى كيانات تمثل المجتمع٬ وتعبر عن مطالبه وتطلعاته بشكل منظم ومنضبط. وهو أمر٬ بالمناسبة٬ لا يفيد النظام سياسى بقدر ما يضره. هذا بالإضافة إلى كبت غير مسبوق للطاقات النقدية على جميع الأصعدة٬ وهى إشكالية حقيقية، لأن الاختلاف والنقاش بين وجهات النظر المختلفة بشأن السياسات المتبعة هما الطريقة الوحيدة لضمان أنها الأفضل. وهذا يعنى أن تصور البعض٬ أن النقاش العام حول القضايا الملحة هو رفاهية ليس أكثر٬ هو تصور خاطئ. فالمجتمعات التى تطورت هى تلك التى وفرت جواً من الحرية سمح للمتخصصين وغيرهم من المهتمين بالشأن العام بالتعبير عن أطروحاتهم النقدية بلا خوف أو تخوين٬ وطرح تصوراتهم أو سياستهم البديلة فى جو من الثقة والتعاون المتبادل. فلا يمكن التوصل إلى أفضل الحلول سوى فى نظام منفتح يقبل الحجة والحجة المضادة٬ ويعترف بأن للنقاش العام دوراً ووظيفة٬ فلا يوظفه أو يسطحه.
وأخيرًا٬ ليس غريبًا أن ينتج عن هذا المناخ المغلق حياة سياسية هشة غابت أو غيب عنها الهدف الحقيقى من السياسة: وهو التنافس الصحى بين وجهات نظر متعددة ونقدية تمثل تطلعات كتل مجتمعية عدة؛ يصلها التنافس٬ فى نهاية المطاف٬ إلى حلول وسطية يرضى عنها أكبر عدد من الأطراف بما يضمن استقرار كل من النظام والمجتمع. وهنا٬ وللأسف٬ يأتى مشهد الانتخابات المقبلة فى مصر كتجسيد حقيقى لمعضلة غياب السياسة٬ وانتفاء جوهرها المتمثل فى التنافس بين رؤى وبرامج وربما سياسات مختلفة تمثل توجهات وكتلا مجتمعية متعددة؛ وهو مشهد يعكس فى وحدته أسباب تفرقه الضمنى؛ وفى قوته جوانب ضعفه المخفية.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية