بقلم - نادين عبدالله
ذهبت إلى بيروت منذ ما يقرب من أسبوعين، وحزنت جِدًّا على وضعها، ووضع أهلها. والحقيقة هى أنى زرت هذه المدينة منذ ثلاثة أعوام. بالفعل، كان وضعها الاقتصادى والسياسى صعبًا عقب الاحتجاجات الكبيرة التى شهدتها، وكان أهلها فى حالة أسى مؤكد. إلا أن المؤلم هو أنى وجدت حالها، هذه المرة، أكثر سوءًا. ملامح الأزمة الاقتصادية التى تعتصرها وتعتصر أهلها ظهرت بشكل مفجع وقاس. منذ ثلاثة أعوام، تحولت هذه المدينة المعروفة بالبهجة إلى بلدة حزينة؛ أما اليوم، فعلى ما يبدو، تغيرت ملامحها الجميلة إلى غير رجعة قريبة.
تتميز بيروت بالحياة الليلية المزدهرة، فتجد المقاهى فى منطقة الحمراء وأمام الروشة وغيرها، صاخبة، مزدحمة بالسكان والسياح معًا؛ تعلو فيها أصوات الموسيقى والضحك والسعادة. أما هذه المرة فرأيت أغلبها خاليا. المحالّ التجارية أَيْضًا خاوية رغم العروض والخصومات. أزمة الكهرباء غيرت شكل المدينة وحولتها إلى أخرى حزينة. من يستطع أن يدفع ثمن الكهرباء ينجح فى فتح محله ليلاً، أما من لا يقدر، وهم الأغلبية فالإغلاق هو قدرهم الوحيد. تخيل أن تتحول شوارع بيروت ليلا إلى شوارع أشباح بعد ما يقرب من الساعة الثامنة مساءً!
للأسف، الأزمة الاقتصادية مقرونة بأزمة الكهرباء جعلت حياة الناس شبه مستحيلة. كثير من المرتبات لا يستطيع البنك صرفها، وتحويشة العمر لأناس غير قليلين فقدت فى بنوك لم تعد قادرة على السداد. فى وضع كهذا، يصبح الشغل الشاغل للناس هو فقط التفكير فى تدبير الطعام والشراب لأبنائهم وأهلهم، والحصول على الكهرباء! نعم، لم تعد الكهرباء متوفرة لتغطية احتياجات المنزل (من إنارة، إنترنت، وتكييف وتدفئة... إلخ). ويمضى المواطنون يومهم فى التفاوض حول الساعات التى سيحصلون فيها على كهرباء، وتلك التى سيحرمون فيها منها. أما المقتدرون، فيشترون الأطباق الشمسية بآلاف الدولارات لتوفير حصتهم من الكهرباء. للأسف، سكان بيروت مشغولون فى تدبير حياتهم اليومية وكأن الزمن عاد بهم عشرات السنين إلى الوراء.
فإما التفكير فى النجاة من الحياة غير الإنسانية أو التفكير فى كيفية ترك بلد، مصت نخبته السياسية دماء أبنائه إلى آخر قطرة. باتت الهجرة، تقريبًا، الملاذ الوحيد لشباب لم يعودوا يرون مستقبلًا لحياتهم فى دولة منهارة تقودها طبقة سياسية مستغلة. والمشكلة الأكبر هى أن الهجرة ذاتها أصبحت رفاهية لا يملكها سوى أصحاب العلم أو المكانة الاجتماعية؛ أما الباقون فواقعون بين رحى مطرقة حياة شقية وسندان هروب خطير، عبر البحر، عواقبه غير مضمونة.