بقلم : أمينة خيرى
بعدما بدأت المملكة العربية السعودية فى اتخاذ خطوات جريئة نحو نبذ طبقات التزمّت ونفض غبار التطرّف، تجد فئة كبيرة من المصريين نفسها ممزّقة فى غياهب اليتم. وليس خفياً على أحد أن موجات الهجرة الاقتصادية من مصر إلى السعودية، التى بدأت فى أواخر سبعينات القرن الماضى ومعها هبّات التأثر بالمنهج الدينى الاجتماعى قد غيّرت من شكل الحياة فى مصر تغييراً جذرياً.
جذور عملية التديين التى ضربت الحياة فى مصر متعدّدة المناهل وكثيرة المصادر. فمن جماعة الإخوان المسلمين التى كوّنت دولة كاملة الأركان على هامش الدولة على مدى عقود، إلى أبناء عمومها من الجماعات متراوحة التشدُّد والتزمّت بين المتطرّف جداً والمتطرّف نصف نصف والمتطرّف على خفيف، إلى التأثر الذى جرى عبر المعايشة اليومية فى دول المهجر الاقتصادى. اقتصادياً، طرأت تغييرات كثيرة على المصريين خلال العقود الخمسة الماضية. فمنهم من بنى بيتاً متعدّد الطوابق على أرضه الزراعية، معتبراً ذلك مكسباً كبيراً ومغنماً عظيماً، ومنهم من فتح مصنعاً لصناعة العباءات وخياطة أقمشة الخمار والنقاب والجوارب السميكة والطرح الخفيفة ذات الطبقات العديدة. ومنهم من افتتح مشروعاً تعليمياً، حيث معهد أزهرى خاص يدرس فيه ما يشاء من علوم يقول إنها دينية وتفسيرات يؤكد أنها فقهية ويزرعها فى عقول وقلوب آلاف الصغار فى القرى والنجوع وحتى المدن الكبرى، وهلم جرا. واجتماعياً، جرى ما جرى فى مصر ولها، ولا داعى للخوض فيها لأن الجميع يعرفها، وإن اعتبرها البعض تقدّماً هائلاً على طريق تسليط الضوء على الهوية الدينية، بينما نظر إليها البعض الآخر وكأنها قفزة مؤكدة فى التأخر والتخلف.
وبخلاف انتشار الزوايا التى لم يكن يعلم ما يدور ويُقال ويُثار فيها سوى مريديها وأعدادهم بالملايين، وكتب عذاب القبر، وفقه المرأة، وأسس الخروج على الحاكم، والقواعد الحاكمة لدخول الحمام والخروج منه، والأسس الزاعقة لوطء المرأة، لم تطرأ تغييرات كبرى على مظاهر الحياة. لكن ما جرى أن اعتناق النسخة الشعبوية المصرية من مناهج التطرّف والتشدّد أدى إلى تحول الحياة اليومية فى مصر إلى مسخ، لا هو بالملتزم ولا هو بالمنفلت، ولا هو متشدّد أخلاقياً ومن ثم ملتزم سلوكياً ولا هو منفتح فكرياً ومن ثم يترك الآخرين يتصرفون كما يتراءى لهم.
شكل المجتمع فى مصر خلال نصف القرن الماضى لا شكل له، وذلك لأنه لا معالم واضحة لسلوكه، أو أمارات بيّنة لتصرفاته. متدين جداً شكلاً، ومنفلت جداً سلوكاً. ملتزم جداً فى مفردات التدين، ومتحلل جداً فى معاملات هذا التدين، وهلم جرا. وما يجرى فى السعودية، والذى يُعد ثورة كبرى من شأنها ألا تُغيّر شكل الحياة فى المملكة، لا سيما فى ما يتعلق بالنساء اللاتى عانين لعقود طويلة من القيود الرهيبة، ولكن من شأنه أيضاً أن يخلف وراءه الكثير من اليتامى الذين استيقظوا ذات صباح فلم يجدوا المرجعية الفكرية والمجتمعية التى طالما ارتكنوا عليها فى تحليل التشدّد وتجميل التزمّت.
مجلة «ذا جلوباليست» (العولمى) العنبكوتية الأمريكية نشرت تقريراً فى عام 2015 عنوانه «السعودية.. على المسار الداخلى فى مصر: كيف هاجر التطرف من السعودية إلى مصر؟» التقرير أرجع أسباب تحول القاهرة من مدينة كوزموبوليتانية منفتحة إلى مكان غارق فى الراديكالية المجتمعية والدينية فى خلال نصف القرن إلى القمع المتواتر من قِبَل رؤساء مصر، ثم اعتناق النسخة المتشدّدة من الإسلام عبر المعايشة فى دول هاجروا إليها طلباً للترقى الاقتصادى. وعاد أولئك بنموذج التشدّد، حيث استنسخوه حرفياً فى مصر.
استنساخ التشدّد بعد سبغه بألوان مصرية حوّل مصر إلى ما هى عليه اليوم من مسخ قبيح. فلا هى مصرية بعاداتها وتقاليدها، ولا هى سعودية بعاداتها وتقاليدها، ولا هى منغلقة تماماً أو منفتحة كلية. هى الشىء وضده، والمبدأ وعكسه. متدين إجرائياً لكنه منفلت سلوكياً. ملتزم مظهرياً لكنه مخوخ أخلاقياً. وكلما تساءلت أو انتقدت أو راجعت مرجعيته، سبقتك إلى باب دارك اتهامات الكفر أو شبهات التشبّه بالغرب الفاسق.
وعودة إلى السؤال الأصلى: كيف ستتصرف ملايين المصريين الذين استيقظوا ذات صباح ليجدوا السعودية تخطو خطوات جريئة وسريعة ومتلاحقة وحقيقية على طريق نفض الظلام الفكرى عنها؟ أخشى ما أخشاه أن تأخذ هؤلاء المصريين الذين وجدوا فى التديين أفيوناً يمنحهم شعوراً بالفوقية الدينية والمجتمعية حماسة المضى قُدماً فى طريق الظلام. وبدلاً من أن يدق جرس الإنذار بأن طريقنا نحو التنوير واستعادة نهضتنا بات ممهداً، نجد من يمسك بتلابيب الظلام ويشدنا معه منتجاً لنا نسخة شعبوية أكثر قبحاً ومسخاً للتديين.
نقلًا عن الوطن القاهرية