توقيت القاهرة المحلي 22:20:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أيتام التطرف الدينى

  مصر اليوم -

أيتام التطرف الدينى

بقلم : أمينة خيرى

 بعدما بدأت المملكة العربية السعودية فى اتخاذ خطوات جريئة نحو نبذ طبقات التزمّت ونفض غبار التطرّف، تجد فئة كبيرة من المصريين نفسها ممزّقة فى غياهب اليتم. وليس خفياً على أحد أن موجات الهجرة الاقتصادية من مصر إلى السعودية، التى بدأت فى أواخر سبعينات القرن الماضى ومعها هبّات التأثر بالمنهج الدينى الاجتماعى قد غيّرت من شكل الحياة فى مصر تغييراً جذرياً.

جذور عملية التديين التى ضربت الحياة فى مصر متعدّدة المناهل وكثيرة المصادر. فمن جماعة الإخوان المسلمين التى كوّنت دولة كاملة الأركان على هامش الدولة على مدى عقود، إلى أبناء عمومها من الجماعات متراوحة التشدُّد والتزمّت بين المتطرّف جداً والمتطرّف نصف نصف والمتطرّف على خفيف، إلى التأثر الذى جرى عبر المعايشة اليومية فى دول المهجر الاقتصادى. اقتصادياً، طرأت تغييرات كثيرة على المصريين خلال العقود الخمسة الماضية. فمنهم من بنى بيتاً متعدّد الطوابق على أرضه الزراعية، معتبراً ذلك مكسباً كبيراً ومغنماً عظيماً، ومنهم من فتح مصنعاً لصناعة العباءات وخياطة أقمشة الخمار والنقاب والجوارب السميكة والطرح الخفيفة ذات الطبقات العديدة. ومنهم من افتتح مشروعاً تعليمياً، حيث معهد أزهرى خاص يدرس فيه ما يشاء من علوم يقول إنها دينية وتفسيرات يؤكد أنها فقهية ويزرعها فى عقول وقلوب آلاف الصغار فى القرى والنجوع وحتى المدن الكبرى، وهلم جرا. واجتماعياً، جرى ما جرى فى مصر ولها، ولا داعى للخوض فيها لأن الجميع يعرفها، وإن اعتبرها البعض تقدّماً هائلاً على طريق تسليط الضوء على الهوية الدينية، بينما نظر إليها البعض الآخر وكأنها قفزة مؤكدة فى التأخر والتخلف.

وبخلاف انتشار الزوايا التى لم يكن يعلم ما يدور ويُقال ويُثار فيها سوى مريديها وأعدادهم بالملايين، وكتب عذاب القبر، وفقه المرأة، وأسس الخروج على الحاكم، والقواعد الحاكمة لدخول الحمام والخروج منه، والأسس الزاعقة لوطء المرأة، لم تطرأ تغييرات كبرى على مظاهر الحياة. لكن ما جرى أن اعتناق النسخة الشعبوية المصرية من مناهج التطرّف والتشدّد أدى إلى تحول الحياة اليومية فى مصر إلى مسخ، لا هو بالملتزم ولا هو بالمنفلت، ولا هو متشدّد أخلاقياً ومن ثم ملتزم سلوكياً ولا هو منفتح فكرياً ومن ثم يترك الآخرين يتصرفون كما يتراءى لهم.

شكل المجتمع فى مصر خلال نصف القرن الماضى لا شكل له، وذلك لأنه لا معالم واضحة لسلوكه، أو أمارات بيّنة لتصرفاته. متدين جداً شكلاً، ومنفلت جداً سلوكاً. ملتزم جداً فى مفردات التدين، ومتحلل جداً فى معاملات هذا التدين، وهلم جرا. وما يجرى فى السعودية، والذى يُعد ثورة كبرى من شأنها ألا تُغيّر شكل الحياة فى المملكة، لا سيما فى ما يتعلق بالنساء اللاتى عانين لعقود طويلة من القيود الرهيبة، ولكن من شأنه أيضاً أن يخلف وراءه الكثير من اليتامى الذين استيقظوا ذات صباح فلم يجدوا المرجعية الفكرية والمجتمعية التى طالما ارتكنوا عليها فى تحليل التشدّد وتجميل التزمّت.

مجلة «ذا جلوباليست» (العولمى) العنبكوتية الأمريكية نشرت تقريراً فى عام 2015 عنوانه «السعودية.. على المسار الداخلى فى مصر: كيف هاجر التطرف من السعودية إلى مصر؟» التقرير أرجع أسباب تحول القاهرة من مدينة كوزموبوليتانية منفتحة إلى مكان غارق فى الراديكالية المجتمعية والدينية فى خلال نصف القرن إلى القمع المتواتر من قِبَل رؤساء مصر، ثم اعتناق النسخة المتشدّدة من الإسلام عبر المعايشة فى دول هاجروا إليها طلباً للترقى الاقتصادى. وعاد أولئك بنموذج التشدّد، حيث استنسخوه حرفياً فى مصر.

استنساخ التشدّد بعد سبغه بألوان مصرية حوّل مصر إلى ما هى عليه اليوم من مسخ قبيح. فلا هى مصرية بعاداتها وتقاليدها، ولا هى سعودية بعاداتها وتقاليدها، ولا هى منغلقة تماماً أو منفتحة كلية. هى الشىء وضده، والمبدأ وعكسه. متدين إجرائياً لكنه منفلت سلوكياً. ملتزم مظهرياً لكنه مخوخ أخلاقياً. وكلما تساءلت أو انتقدت أو راجعت مرجعيته، سبقتك إلى باب دارك اتهامات الكفر أو شبهات التشبّه بالغرب الفاسق.

وعودة إلى السؤال الأصلى: كيف ستتصرف ملايين المصريين الذين استيقظوا ذات صباح ليجدوا السعودية تخطو خطوات جريئة وسريعة ومتلاحقة وحقيقية على طريق نفض الظلام الفكرى عنها؟ أخشى ما أخشاه أن تأخذ هؤلاء المصريين الذين وجدوا فى التديين أفيوناً يمنحهم شعوراً بالفوقية الدينية والمجتمعية حماسة المضى قُدماً فى طريق الظلام. وبدلاً من أن يدق جرس الإنذار بأن طريقنا نحو التنوير واستعادة نهضتنا بات ممهداً، نجد من يمسك بتلابيب الظلام ويشدنا معه منتجاً لنا نسخة شعبوية أكثر قبحاً ومسخاً للتديين.

 نقلًا عن الوطن القاهرية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أيتام التطرف الدينى أيتام التطرف الدينى



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 08:05 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 18 نوفمبر /تشرين الثاني 2024

GMT 10:55 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

دوناروما يؤكد ان غياب مبابي مؤثر وفرنسا تملك بدائل قوية

GMT 09:55 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 08:31 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:27 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

هند صبري بإطلالة أنثوية وعصرية في فستان وردي أنيق

GMT 04:33 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونسكو تعزز مستوى حماية 34 موقعًا تراثيًا في لبنان

GMT 13:08 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نيمار يشتري بنتهاوس بـ 200 مليون درهم في دبي

GMT 07:25 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزالان بقوة 4.7 و4.9 درجة يضربان تركيا اليوم

GMT 03:12 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

ليليا الأطرش تنفي تعليقاتها عن لقاء المنتخب السوري

GMT 18:33 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ميا خليفة تحضر إلى لبنان في زيارة خاصة

GMT 14:47 2019 السبت ,09 شباط / فبراير

الحضري على رأس قائمة النجوم لمواجهة الزمالك

GMT 11:13 2018 الأربعاء ,11 إبريل / نيسان

ما وراء كواليس عرض "دولتشي آند غابانا" في نيويورك
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon