بقلم : أمينة خيري
قليل من البهجة لا يضر، وقدر ولو ضئيلا من غذاء الروح لا يجور على غذاء المعدة. ومثلما تتصارع الجمعيات وتسارع المؤسسات لجمع التبرعات بالملايين وربما المليارات من أجل شراء «اللحمة» للفقير، وتوفير الشاى والزيت والسكر لمتواضعى الحال، وعلاج الأجساد العليلة بالدواء، عليها أن تلتفت كذلك إلى بث قدر من البهجة ومعها قدر من التنوير فى نفوس القطاعات المُصنَّفة «فقيرة» أو «الأكثر احتياجًا».
احتياجات البشر معروفة ولا تحتاج اجتهادًا وسفسطة. الاحتياج الرئيسى والبديهى فسيولوجى بحت، ألا وهو الأكل والشرب والدفء والراحة. ثم تأتى قوائم أخرى من الاحتياجات تختلف فى أولوياتها باختلاف الثقافات، فهناك الحاجة إلى الأمن والأمان، والعلاقات الوثيقة مع الآخرين، والشعور بالقيمة والمكانة، والإحساس بين الحين والآخر بالبهجة.
البهجة تثير فى ثقافتنا مشاعر متضاربة، فهناك الممسكون بتلابيب البؤس والتراجيديا. ويبدو ذلك واضحًا جليًا فى عشق مصرى أصيل لمسلسلات النكد ومشاهد المعاناة والألم. وهناك مَن صاروا يعتبرون البهجة حرامًا والاستمتاع رجسًا من عمل الشيطان، وهؤلاء هبُّوا علينا من كل فج عميق على مدار العقود الخمسة الماضية، تارة مرتدين عباءة الدين وأخرى ناقلين إلينا ما اكتسبوه من ثقافات مغايرة ترتدى هى الأخرى العباءة نفسها. نفس المنطق الذى يحرم البهجة ويجرمها يعتنقه آخرون لا يرون فى احتياجات الفقراء إلا كيلو لحمة وكيس سكر وكرتونة بيض. هذه الاحتياجات لا ريب فى أهميتها ومركزيتها وبديهيتها. لكن القول إن ضيق ذات اليد يجعل من البهجة رفاهية استفزازية هو الضلال بعينه. وقد رأيت بنفسى البهجة العارمة التى تتسلل إلى حياة أطفال الشوارع الذين مارسوا المصارعة الرومانية بمساعدة من إحدى الجمعيات قبل سنوات. العديد منهم انقلبت حياته رأسًا على عقب إيجابيًا. كما رأيت ما لا يمكن ترجمته إلى حروف وكلمات حين تهدى شخصًا ما أقل حظًا وزوجته تذكرتى سينما أو عرضًا مسرحيًا شبابيًا، أو دعوتين لدخول نادٍ رياضى واجتماعى، أو تدعمه لقضاء يوم مع أسرته فى حديقة عامة أو ما شابه.
بالطبع سترتفع الأصوات المُندِّدة والعقول الساخرة: كيف لمَن يجد صعوبة فى تأمين قوت يومه أن يفكر فى الترفيه؟!، الأَوْلَى أن تقدم له إما معونة مادية أو تشترى له كيلو لحمة. لكن كم من أرواح ماتت بسبب جفافها وجفائها. وكم من عقول تنورت وتفتحت بعد طول ظلام وكآبة بفعل ساعتين من البهجة والتنوير!.
وللعلم، فإن إحدى الطرق غير المباشرة للتنوير ورفع الصدأ الذى لحق بالعقول والقلوب وتطهير الهسهس المرتدى عباءة الدين هى بث البهجة فى القلوب والعقول عبر الثقافة والسينما والمسرح والطبيعة والهواء الطلق والرياضة.
وكما أن اللحمة والسكر والزيت غذاء البطون وضرورة لبقاء الجسد على قيد الحياة، فإن قليلًا من البهجة والتنوير ضرورة أيضًا لبقاء الروح مع الجسد. وأحدهما لا يلغى الآخر. وللعلم والإحاطة، فإن رافعى رايات وشعارات «سندوتش جبنة أفضل من بناء طرق وتشييد مدن» لم يصلوا إلى هذه القدرة على التنظير دون قدر من البهجة والثقافة فى حياتهم.