بقلم : أمينة خيري
لم يكن التجريف الثقافى والتاريخى والتعليمى الذى جرى فى مصر أوضح مما هو عليه الآن. ولولا أحداث السنوات الثمانى الماضية، حلوها ومرها، انتصاراتها وانكساراتها، لمضينا قدمًا فى طريق الغافلين المغيبين عما آلت إليه أوضاعنا وأوضاع أبنائنا الثقافية والوطنية.
وبينما نحيى ذكرى النصر التى لم تُعد لنا الأرض فقط، لكن أعادت كرامة ومكنت شعبًا من أن يستعيد ثقته فى نفسه وقدراته بعد سنوات من الانكسار، ننظر بواقعية إلى أبنائنا وأحفادنا ممن لم يعايشوا حرب أكتوبر، لكنهم حفظوها فى الكتب مادة جامدة لا حياة فيها، وكتبوا عنها فى موضوعات الإنشاء سطورًا منزوعة الروح، وشاهدوا أفلامًا درامية أكل عليها الزمان وشرب رغم جودة بعضها، وسمعوا مقتطفات من أحاديث إعلامية عن ذكريات الحرب، لكن ما جرى هو تفريغ المناسبة من قيمتها ومكانتها الوطنية. رأينا كيف أن الوطن الذى تم تسليم قطاعات منه لجماعات دينية فى عقود مضت، لتقوم بمهام الدولة من تعليم وكفالة وغيرهما من خلال دولة فى داخل الدولة يدين شعبها لهذه الجماعات بالولاء، ويفضلونها على الدولة الأصل، ويرجحون كفة قوانينها على كفة قوانين الوطن. ورأينا كيف أن مدارس ومعاهد «دينية» فى أرجاء البلاد حرمت السلام الوطنى والوقوف أثناء عزفه وأداء التحية العسكرية، وربت تلاميذها وتلميذاتها على تحريم كل ما له صلة بـ«الوطنية».
وعلى سبيل المثال لا الحصر، ظلت «الفتاوى» التالية تجوب أنحاء البلاد على مدار سنوات. «السلام الوطنى تشبه بأعداء الله»، و«الاحتفاء بالأعياد الوطنية، حتى وإن كان عن حسن نية واجتهاد، هو تشبه بأعداء الله»، و«لو كان الغرض إظهار ما أنشأته الدولة فيجب أن يكون فى الأيام الأخرى غير الوطنية حتى لا نتشبه بالكفار»، و«لا تجوز تحية العلم بل هى بدعة محدثة»، و«لا يجوز القيام إعظامًا لأى علم أو سلام وطنى، بل هو من البدع المنكرة، وذريعة إلى الشرك، ومشابهة للكفار وتقليد لهم فى عاداتهم القبيحة».
ومن هذا القبح الذى تغلغل فى البعض من مدارسنا ومعاهدنا فى عقود مضت، قبح آخر ألمّ بالشباب والصغار، وهو قبح التجهيل والتسفيه والتسطيح. تُرِكت الأجيال الصغيرة نهبًا إما لتعليم مهترئ نسى أو تناسى أدواره التربوية والوطنية، وآباء وأمهات تجاهلوا قيم التنشئة تحت وطأة متطلبات الحياة الاقتصادية والانشغال بتأمين الدخل لتوفير ميزانيات الدروس الخصوصية والهواتف الخلوية وغيرهما. كما أغمضت الدولة عينيها على مدار سنوات مضت عما يجرى مجتمعيًا من تجريف وتجهيل، مكتفية بواجهة ثقافية ظنت أنها أنيقة: أوبريتات «وطنية» تتغنى بأشخاص، ورقصات فلكلورية لا تعنى شيئًا للصغار، وأحاديث مكررة لا تواكب متغيرات العصر. ونحمد الله على نعمة اكتشاف الأمراض، وإمكانية العلاجات حتى وإن تأخرت. نصر أكتوبر يعود بعد 46 عامًا ليحظى ببعض ما يستحق من احتفاء، ونطلب المزيد من مواكبة العصر.