حين تجد الغالبية تحاول أن تعلل ما هو غير قابل للتعليل، وتبرر ما لا مبرر له، وتتحجج بما لا يصلح معه حجة أو برهان فاعلم أن الجميع فى مأزق: حاكمًا ومحكومين وما بينهما. وبين الحاكم والمحكوم دستور وقانون. وبين المحكومين وبعضهم البعض أيضًا الدستور ذاته والقوانين نفسها. وإذا تُرِكت العلاقة لـ«ذوق» الحاكم وكرم أخلاقه ومراعاته ربنا فى حكم المحكومين أصبح الوضع على كف عفريت. وإذا فُتِح باب «البركة» و«جات سليمة» و«ماجراش حاجة» و«إيه المشكلة يعنى؟!» بين المحكومين وبعضهم البعض، أصبحت الدنيا «بزرميط» تمامًا. وكلما طال وقت هذا الانفلات وذلك الـ (....)، كلما صعب إعادة الأمور إلى مقاليد القانون وسيطرة الدستور.
دستور مصر وترسانة قوانينها هى الفيصل فى العلاقات بين الجميع، تنظمها، وتتدخل لوقف الجور والظلم والاعتداء الذى قد يتعرض له البعض على أيدى البعض الآخر. فإن لم تتدخل أو احتجبت أو دخلت فى غيبوبة أو «عملت نفسها مش من هنا»، أصبحت العضلات والبلطجة والتفوق فى التعدى على الآخرين هى الفيصل. وهنا، يكون الطرف الأضعف من المواطنين غير القادرين أو غير الراغبين فى البلطجة هم الضحية.
ضحية غياب تطبيق القوانين بشكل واضح هى آخذة فى التناقص. فالمتعدون ومنتهكو القوانين والضاربون عرض الحائط بالأعراف وما يصح وما لا يصح فى تزايد مطرد. خذ عندك هذه المشاهد المتكررة والتى أصبحت ظواهر عادية معتادة لا تستوقف أحدًا أو تزعجه أو تقلقه.
فى المربع المحيط بأحد المراكز التجارية الكبرى فى «مدينة نصر» عشرات الأطفال من الجنسين لا تتعدى أعمار بعضهم الخمس أو الست سنوات. مهمتهم التسول. نسبة كبيرة منهم تأتى يوميًا من مصر القديمة ولا تبرح مواقعها إلا بعد أن يغلق المركز أبوابه. هؤلاء لم تطأ أقدامهم أرض مدرسة. ولكل قصته التى يحكيها والمتأرجحة مرة بين «أبويا ميت وأمى عاجزة» أو «أبويا عاجز وأمى ميتة» أو كلاهما ميت أو كلاهما عاجز إلخ. يتسولون ويدخنون السجائر ويلعبون ويأكلون ويجيئون ويذهبون تحت أعين أفراد الشرطة حال تواجدهم.
وتواجد غيرهم- ولكن بالمئات- تراهم أيضًا يوميًا فى مدينة الشروق. بعضهم يكنس الشوارع ضمن عمال الحكومة، والبعض الآخر يعمل فى أعمال البناء، وآخرون فى الديليفرى، والجميع لا يعرف المدرسة. والمؤكد أن هؤلاء ليسوا استثناء، ولكن أقرانهم بالملايين موجودون فى كل صوب وحدب.
وفى كل صوب وحدب أيضًا تغزو ظاهرة توقيف عدادات سيارات الأجرة وكأن قرارًا جمعيًا تم اتخاذه فيما بينهم. فى البداية كان البعض يتحجج كذبًا بأن العداد لا يعمل، ثم تطور الموقف وصار السائق يعتدى لفظيًا على الراكب الذى يصر على تشغيل العداد ويطالبه بالنزول. ولأن لم يعد لهم كبير أو يسيطر عليهم قانون، بات السائق اليوم يجاهر بأنه لن يشغل العداد لأن «العيشة صعبة» و«العداد ظالم» و«مصاريف التاكسى كثيرة». تشكو إلى أمين الشرطة فيبادرك بالرد: «وأنا مالى؟» أو «أعمله إيه يعنى؟!» وإن كان لطيفًا ينصحك بالبحث عن تاكسى آخر عله يكون «يعرف ربنا».
ربنا- الذى وهبنا عقلاً كان الغرض الأصلى منه استخدامه- عرفوه بالعقل. والعقل الذى يسمح لهذه الأعداد الغفيرة من «المتطوعين» بلطع ملصقات «هل صليت على النبى اليوم؟» فى المواصلات العامة وجدران المترو وأعمدة الكبارى الجديدة والقديمة، ناهيك عن زوايا الصلاة والشباشب الملقاة حولها فى حرم محطات مترو الأنفاق وكذلك على حرم الأرصفة هو عقل مشوه. فقد أقنعه البعض أنه هكذا ينشر الدين ويحث المواطنين على التدين، لكنه فى الحقيقة ينتهك القانون ويولد الفتنة بين أبناء الوطن.
وفى منطقة شعبية أصيلة فى قلب القاهرة وتحديدًا فى باب الشعرية، وبينما خطباء المساجد والزوايا يصيحون فى المكروفونات صياحًا شديدًا ليغطى كل منهم على الآخر حيث لا يفصل بين الزاوية والأخرى إلا أمتار قليلة، قال أحدهم صارخًا: «ما هو إما يدخلوا الإسلام، أو يدفعوا الجزية، أو تُقطَع رقابهم. ربنا قال كده بالعقل كده».
وبالعقل كده، حين تترك الطرق نهبًا لمعاتيه ومخابيل يقودون المركبات قيادة أقل ما يمكن أن توصف به أنها «خبل». والنتيجة حوادث سير أعلى بكثير من المعدلات الطبيعية، قتلى على الطريق، مصابون، وخسائر فادحة يوميًا. تسأل: أين الرادار؟ أين كاميرات المراقبة؟.. أين رجال المرور الذين يطبقون القوانين ولا يقتصر دورهم فقط على التدقيق فى الرخص؟ تأتيك حجج- إن جاءت- تتراوح بين «أصل عددهم قليل» «أصل مراتباتهم متدنية» «أصل حوادث المرور سلوك بشرى» وغيرها من الحجج الكفيلة برفع الضغط وتفجير الدماغ وإيقاف القلب.
هذا الكم من وجع القلب والعقل من شأنه أن يعالج حال عودة القانون من غيبوبته أو موته الإكلينيكى اليوم وليس غدًا. تطبيق القانون هو أبرز بنود التعاقد بين الحاكم والمحكوم، وبين المحكومين وبعضهم البعض
نقلا عن المصري اليوم القاهرية