بقلم : أمينة خيرى
على سبيل الاستقصاء ومن باب الاحتياط قبل إصدار الأحكام وإطلاق الاتهامات، كانت جولة صغيرة بين أطراف المشهد الفوضوى الغوغائى الذى نعيش فيه كفيلة بالإيقاع فى مزيد من الحيرة. فى الكوربة -أحد أحياء مصر الجديدة الراقية الجميلة سابقاً القبيحة الفوضوية حالياً- وفى صباح يوم من أيام منتصف الأسبوع، كان المشهد كالتالى: سيارات ملاكى وأجرة مصطفة صفوفاً ثانية وثالثة، بالإضافة إلى الصف الأول المتأرجحة أماكنه بين عربة بيع الموز وقراطيس حجز الأماكن أمام المحلات ومقاعد المقاهى الزاحفة والمتوغلة والمستوحشة دائماً وأبداً على حرم الطريق.
حارة واحدة متاحة لمرور السيارات، وذلك فى حال لم يقرر سائق ميكروباص أن يقف ليشعل سيجارته أو يحمل مزيداً من الركاب أو يتخلص من بعض منهم. وعلى جانب الطريق يقف أمينا شرطة ومعهما الباش سايس المعروف للقاصى والدانى فى المنطقة. كلمة من هنا وكلمة من هناك عن حال الشارع وسبب عدم تحرير مخالفات لهذه الكوكبة من المصطفين خارج القانون أدت إلى انصراف أحد الأمينين لشعوره أن الحديث لا يهمه. أما الآخر فقد كان أكثر حماسة وصدقاً، حيث أكد أن الغالبية المطلقة ممن يوقفون سياراتهم فى الممنوع هن زوجات وبنات ضباط شرطة وجيش! وبسؤاله عن هذه المعلومة العجيبة، قال إنه كلما همَّ بتحرير مخالفة لإحداهن باغتته بقولها: «ما تعرفش أنا مين؟»، وهى العبارة التى لا تعنى بالنسبة له (على افتراض صحتها) إلا أن قائلتها زوجة ضابط!
ولما سمع السايس سيرة الضابط لم يتوان عن التلميح والتلويح إلى أن الأمناء هم من يقومون بالعمل كله، ويطيقون ما لا يطيقه بشر من مجهود وصعوبات ومشكلات، فى حين أن الضابط راتبه أضعاف راتب الأمين ومهام عمله أهون وأسهل. وبسؤاله عن موقفه فى حال تخرج ابنه فى كلية الشرطة ووجد نفسه يتقاضى راتباً يوازى راتب أمين الشرطة نفسه؟ قال: لا طبعاً، أمال هو دخل الشرطة ليه؟! ما كان دخل معهد الأمناء وخلاص. ويعود الأمين الذى يدق على أوتار الدخل المتدنى والمعاش المستحق بعد سنوات الخدمة المتقلص.. إلخ. ولا تفلح جهود إعادته إلى المسار الأصلى للحوار حيث سبب ترك الساحة لكل هؤلاء المخالفين الذين يتركون سياراتهم فى رعاية السايس ومرمى نظر ووجود أمناء الشرطة حيث الأمر لا يعنيه كثيراً.
وعلى مرمى حجر وربما حجرين وفى شارع من أهم وأكبر شوارع مصر الجديدة، توك توك يقف فى إشارة روكسى المركزية، ولا تبدو على ملامح سائقه أية ملامح توتر أو أمارات تخوف، بل يدخن سيجارته بسعادة غامرة، ويسمع موسيقى مهرجاناته باستمخاخ واضح. ولمَ لا يفعل، وأمامه سيارة تحمل لوحة أرقام لدولة هولندا ودراجات بخارية تحمل لوحة تعريفية «صلى على النبى»؟
هذا المشهد الذى بات عادياً معتاداً لم يعد يستوقف كثيرين، صحيح أن البعض -وأنا منهم -يمارس الهبد والرزع على «فيس بوك» و«تويتر»، وأحياناً يثير البعض من الإعلاميين والصحفيين -وأنا منهم- مثل هذه المسائل الفوضوية العشوائية، إلا أن النتيجة «ولا حاجة». سألت مراراً من قبل: «أين يذهب رجال المرور؟»، واستنكرت بشدة أن يتم تعطيل إشارات المرور التى عاودت الظهور فى بعض الميادين والشوارع الرئيسية، وأن تكون مهمة اللجان المرورية فقط التدقيق فى رخص القيادة، لأن كوارث القيادة أفدح بكثير من التدقيق فى الرخصة، وعداد قتلى الأسفلت فى بلدنا دال، وحال أخلاق الشارع لدينا أقل ما يمكن أن توصف به هو أنها ما بعد الكارثة بقليل. والحقيقة أن الكارثة تكتمل وتتأزم بردود فعل البعض من مسئولى المرور الذين إما «يناشدون» المواطنين التزام قواعد المرور (رغم أن منهم ومن قادة سياراتهم كثيرين لا يلتزمون)، أو أنهم يدافعون مستنكرين: «وهل نعيّن عسكرياً وراء كل مواطن؟».
مرة أخرى، توجيه اللوم والانتقاد للمسئولين عن المرور لا يعنى تقليلاً من دورهم، أو انتقاصاً من حجم الضغوط الواقعين تحتها، أو تجاهلاً لمصاعب الحياة التى يتعرضون لها، لكن المركب الذى نستقله جميعاً واحد، ومحاولات إغراقه المستمرة لا تقتصر فقط على المؤامرات الخارجية وجماعات الشر الداخلية والأوضاع الإقليمية والانتكاسات الدولية، لكن حجم الضرر الذى نلحقه بأنفسنا هائل.
وما دمنا فى وضع سياسى لا نُحسد عليه، فلماذا لا نوجه اهتمامنا لحال الشارع؟ ولماذا لا نعتبر ضبط الشارع طريقاً وسبيلاً إلى ضبط العنصر البشرى الذى بات أغلبه يستعذب الفوضى ويطرب للعشوائية، والبعض الآخر فقد الأمل وسلّم نفسه للإحباط لأنه لا يمثل سوى أقلية مستاءة وغير قادرة على الاحتماء فى القانون بعدما تخلى القائمون عليه عن دورهم؟! وأذهب إلى القول بأن ضبط الشارع قد يكون وسيلة لضبط السياسة: فمن يقوم بإيقاف سيارته فى الممنوع، أو قيادتها دون لوحة أرقام، كيف له أن يتمتع بفكر سياسى حكيم أو يمتلك بدائل ديمقراطية حقيقية؟ إنها سدة شارعية قبل أن تكون سياسية!
نقلا عن الوطن القاهريه