بقلم: أمينة خيرى
لا أفهم كثيراً فى كرة القدم، ولا تستهوينى من ألفها إلى يائها، لكن أحب متابعة هوامشها وأهوى ملاحظة آثارها الجانبية، السلبى منها والإيجابى، وأدافع بشدة عن الدور الذى تلعبه فى احتواء ملايين الصغار والمراهقين والشباب، سواء بالممارسة أو الهواية أو التشجيع، وأحب لمة الأهل والأصدقاء وحتى الأغراب فى المقاهى لمتابعة المباريات المهمة، حيث تطغى الأجواء الاحتفالية رغم أنف الفائز والخاسر.
الفوز والخسارة اللذان يطلان برأسيها هذه الآونة، وبعد سنوات ما بعد ثورة يناير العجاف، لهما أوجه عدة ودلالات كثر. على صعيد الفوز، فازت مصر بسمعة عالمية فرضت نفسها بالفعل لا بالقول، وبالحجة والبرهان لا بفرد العضلات أو فرض المواقف، حيث تنظيم مبدع وتأمين هائل وإبهار دون افتعال وذوق راق منزه عن الابتذال.
وقد بذلت جهداً خارقاً لأمنع نفسى من كتابة السطرين التاليين، لكنى فشلت، فإذا كانت لدينا هذه القدرة الخارقة على التنظيم، وتلك الملكة الرائعة فى الضبط والربط، فلماذا لا تظهر هذه القدرات فى الشارع الذى يئن تحت وطأة العشوائية ويتألم لفرط الهمجية فى المرور والنظام والنظافة والتعديات؟ وما الذى يحول دون ضبط إيقاع الشارع الذى اعتنق النشاز وأدمن السوقية بنفس المهنية والرقى والحسم والحزم التى أبهرتنا فى تنظيم فعاليات كأس الأمم الأفريقية؟
خروج مصر من الدور الـ16 فى البطولة كان خسارة محزنة، لكن الحزن وحده لا طائل منه، الطائل الحقيقى يقبع فى كشف أسباب الخروج وتعرية عوامل الفشل، التى يعرفها الجميع بشكل أو بآخر، ولا يجرؤ أحد على الخوض فيها. الفساد والمحسوبية والعشوائية والمجاملات وانعدام التخطيط وغيرها آفات تنخر فى عظامنا منذ عقود، فأن يأتى اليوم ويتاح للجميع الحديث عن هذه الآفات والتعبير الشعبى الجارف الراغب فى محاصرتها وفضح أبطالها فهذا فوز عظيم.
فوز عظيم ورائع آخر ذلك الذين تحقق على يد اللاعب عمرو وردة، فأن يجاهر قطاع ليس قليلاً من الشعب المصرى بموقف رافض للتحرش بدون «أصل البنت هى السبب» و«أكيد هى شجعته» و«هيعاكسها على إيه دى؟! حتى وحشة»، فهذا ضمن لائحة إنجازات كأس الأمم الأفريقية.
كأس الأمم الأفريقية ليست نهاية كرة القدم أو علامتها الفارقة الوحيدة، لكن نهاية الأخلاق وعلامة تضاؤلها الفارقة تكمنان فى أن يخسر الإنسان احترامه لنفسه أو اتساقه مع مبادئه وقواعده، أن تحب محمد صلاح وتعتبره قدوة وترسم صورته على الجدران وأبواب المقاهى وتفخر بأنك مصرى فى بلاد الفرنجة التى تنظر شعوبها إلى صلاح باعتباره أيقونة ورمزاً وقدوة، فهذا حقك ورأيك، لكن أن تقلب عليه الطاولة وتبيعه وتهبده على الأرض بعد ما كان فى سابع سماء لأنه لم يحرز هدفاً فى مباراة أو جاهر برأيه فى الأوضاع أو أتى بتصرف اعتبرته مجانباً للصواب، فهذه معضلة لأنها تعنى أن سيادتك لا أمان لك، فإن لم تجد فى داخلك ما يمنعك من صب اللعنات وسكب التوعدات على من كان بالأمس القريب حبيبك ومثلك الأعلى وقدوتك، فأنت تواجه مشكلة كبرى، وفى سياق آخر، تبقى معضلة استمرار محبة من ثبت ضلوعه سواء بالانتماء الفكرى أو الفعلى لجماعة إرهابية مثاراً للشد والجذب والمكايدة الثورية.
سنوات ما بعد ثورة يناير ألقت بظلال كثيرة، بعضها وخيم، على كل تفصيلة من تفاصيل حياتنا، وبدلاً من توحد الجهود، وتنظيم الصفوف، إذ بالجهود تذهب هباء أحياناً. فن صناعة من الحبة قبة يمكن تعلمه من نشاطنا على فيسبوك على مدار ساعات اليوم الـ24، تحويل تشجيع المنتخبات العربية التى بقيت بعد خروج المنتخب المصرى إلى قومية عربية ودفاع عن العروبة أمر مبالغ فيه كثيراً، وتطوير السجال بين مشجعى السنغال وداعمى الجزائر إلى مواجهة حامية الوطيس بين التاريخ والجغرافيا والفلسفة والسياسة أمر عجيب، ولولا أن السنغال دولة مسلمة، شأنها شأن الجزائر لدخل الدين على الخط وتلونت المواجهة بألوان الفوقية الدينية والعنصرية العقائدية.
عقيدة كرة القدم ليست كغيرها بكل تأكيد، ولا مجال للحديث النظرى عن وضع خطوط فاصلة بينها وبين السياسة، أو الجغرافيا، أو التاريخ، وحتى العائق الوحيد الذى ظل عصياً على الإزالة تم نسفه، ألا وهو أن كرة القدم لعبة ذكورية بامتياز. الفرق النسائية باتت سمة عادية فى الكثير من بلدان الأرض، صحيح أن بلداناً أخرى ما زالت غارقة فى أمواج العصور الوسطى محرمة لعب الفتيات ومجرمة ركض البنات، لكن واقع الحال يشير إلى أن كرة القدم متاحة لكل من هو قادر وراغب فى ركل الكرة وتشاركها والاستحواذ عليها ثم ركلها مجدداً على أمل إحراز هدف.
كان كأس الأمم الأفريقية فى دورته الـ32 حالة فريدة من الفوز والخسارة والدروس والمكاشفات وجذب من لا ناقة لهم أو جمل لها، ولكن بعيداً عن أرض الملعب.