يبدو أن الدور الأممى الذى كان ينبغى على المهاجرين واللاجئين أن يلعبوه قد انتهى.
لم تعد هناك حاجة ماسة لصورهم التى تُدمى القلوب، أو تفاصيل نزوحهم التى تصب فى مصلحة جماعة متحاربة هنا، أو مجموعة ترفع السلاح هناك، أو قوى دولية تدعم هذه على حساب تلك من أجل هيمنة ومصالح عظمى. وانتفت الأسباب والدوافع التى كانت تجعل من قصص كرّ وفرّ آلاف الهاربين من جحيم الاقتتال والعالقين على حدود دول أوروبية، أخباراً رئيسية ومقاطع مصورة تحوز المشاهدات الأعلى، لتشكل مزاجاً عاماً وتصنع رأياً شعبياً يحقق مصالح سياسية وأغراضاً اقتصادية.
ويبدو أن أحداً لم يلتفت بعد إلى الشفافية المطلقة وتقديم المعلومة المنزَّهة عن التجميل وجهود دغدغة المشاعر التى ينعم بها الإعلام الغربى هذه الآونة.
يجرى هذه الآونة تداول عشرات التحليلات والتنظيرات حول المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، أو «ماما ميركل»، كما أطلق عليها محبو الإنسانية قبل ثلاث سنوات، ومعهم من صدقوا أن هناك من الساسة من يدعم حقوق الإنسان فى المطلق دون النظر إلى الجنس والدين والعرق!
سياسة ألمانيا التى دغدغت قلوبنا ومشاعرنا جميعاً قبل سنوات قليلة حين فتحت أبوابها على مصاريعها أمام نحو مليون لاجئ ومهاجر من السوريين وبعض من جنسيات أخرى معهم، وذلك تحت راية الإنسانية، تجد نفسها هذه الأيام فى «خانة اليك». صحيح أن السياسات الألمانية الصارمة نجحت إلى حد كبير فى إدماج المقبلين بقوة القانون بين تعلم اللغة وعدم الإتيان بأفعال أو أنشطة خارقة للقوانين، إلا أن الفائدة الأكبر هى تعويض مشكلة انخفاض المواليد التى تعانى منها ألمانيا، ومن ثم النقص الحاد فى مهن حيوية فى المجتمع الألمانى.
ولأن الطبيعة البشرية -حلوها ومرها- لا تذعن دائماً لقواعد المصالح السياسية ولغة المواءمات الأممية، فإن التيارات اليمينية فى ألمانيا بدأت تستعد لمرحلة ما بعد ميركل.
ما بعد ميركل لن يتسم بالضرورة بسياسة فتح الأذرع للمهاجين واللاجئين، أو حتى دعم وجودهم بالقدر الذى اعتنقته المستشارة الألمانية.
وبدأنا نسمع همهمات شاكية من تهديد يتربص بالهوية الوطنية، وهو ما تتردد أصداؤه بدرجات متفاوتة فى العديد من الدول الأوروبية. تقارير عن حالة مزرية لأوضاع اللاجئين المحتمين بمخيمات فى اليونان لم يبرحوها طيلة ثلاث أو أربع سنوات مضت.
شد وجذب غير مباشرين فى الداخل الألمانى، حيث تحكم محكمة ألمانية باستعادة لاجئ تم ترحيله إلى اليونان التى أتى منها، لكن الحكومة الألمانية تؤكد أنها مستمرة فى إعادة اللاجئين المقبلين إليها من اليونان.
وعلى مقربة من اليونان، تتبلور ملامح أزمة مشابهة. فتركيا التى دغدغت هى الأخرى مشاعر الكثيرين بفتحها الأبواب أمام الهاربين من الجحيم السورى، تتخذ عدداً من الإجراءات الجذرية لتخفيف أعبائها والتخلص من أحمالها التى كلفت الاتحاد الأوروبى ستة مليارات يورو سددتها لتركيا على مدار ثلاث سنوات، وذلك ضمن مساعدات أخرى لضمان بقاء المهاجرين السوريين على أراضيها.
وبين تمديد المهلة الممنوحة للسوريين فى إسطنبول (نحو نصف مليون سورى) لمغادرتها قبل نهاية أكتوبر المقبل، والسماح لهم بإعادة التوطين فى أماكن أخرى عدا إقليم أنطاليا الجنوبى، وفى حال عدم الإذعان مواجهة الترحيل القسرى، يظل ما لا يقال أكبر وأخطر.
فحمل تركيا المتمثل فى نحو 3٫5 مليون لاجئ سورى كان يمكن تحمله مع استمرار تدفق مليارات اليوروهات، ومعه بالمرة سمعة عالمية يتغنى بها البعض حول سعة صدر النظام التركى وطيبة قلبه وحنية مشاعره تجاه اللاجئين.
لكن توقف التدفقات، وقرب انتهاء الصراع الدولى الدائرة رحاه على الأراضى السورية، وبدء مرحلة وضع الرتوش الأخيرة على من يأخذ ماذا من الكعكة السورية، ولملمة متعلقات الدول المتبقية مع الجماعات التى كانت تدعمها لتدك سوريا دكاً، يجعل من استمرار الوضع على ما هو عليه فى تركيا أمراً صعباً وغير منطقى بلغة السياسة.
لغة السياسة لا يمكن أبداً فصلها عن لغة الاقتصاد والمصالح والقوة وتوازناتها.
وما لا يقال فى تركيا علناً، لكنه معروف ومتوقع مسبقاً من الجميع باستثناء أولئك المسحورين بعشق حلم الخلافة العثمانية أو المضحوك عليهم بأضغاث الإنسانية السياسية التركية، هو أن النسبة الأكبر من الـ3٫5 مليون سورى فى تركيا ستواجه ضغوطاً مختلفة ومتواترة لإعادة التوطين أو العودة إلى سوريا.
الغريب أننا لا نسمع صوتاً مؤنباً أو لائماً أو صاباً الغضب على رؤوس من كشفوا الوجه الحقيقى لتعاملهم مع اللاجئين السوريين.
بالطبع ينبغى أن يكون هناك واجب إنسانى والتزام أممى تجاه أى هارب من جحيم اقتتال أو شبح خطورة أو تهديد فى وطنه. وهناك من المواثيق الدولية ما يلزم بذلك وأكثر.
ومن واقع خبرة الكوكب، هناك الملايين من اللاجئين الذين ساهموا فى نهضة الدول التى لجأوا إليها.
لكن بلغة الواقع ولهجة الكوكب، أزمة اللاجئين السوريين ستكشف عن وجوه بالغة القبح وألسنة ضربها الخرس.