احترت واحتار دليلى وقدرتى على إيجاد إجابات منطقية أو تفسيرات تهدئ من روع العقل وتضبط دقات القلب. أنظر حولى وأشعر بفرحة عارمة ودهشة إيجابية بالغة وسط هذا الكم من الطرق الجديدة والمدن السكنية الحديثة والمشروعات الكبيرة وتحويل وجه مصر إلى ملامح حديثة تحظى ببنى تحتية ممتازة وشبكات طرق تضاهى مثيلاتها فى أغنى دول العالم، لكن أنظر إلينا فتنتابنى الحسرة وتتمكن منى الغمة تمكناً أكيداً.
المؤكد أن من بنى طريقاً أو شيد عمارات سكنية أو ساهم فى بلورة مشروعات صناعية واتفاقات تجارية واستثمارية لن ينزل إلى الشارع بنفسه بعد ذلك ليتأكد أن المارة والسكان وقادة السيارات يصونون هذه الإنجازات ويتعاملون معها تعاملاً يليق بما بذل فيها من مجهود.
ولما كان صوتى قد «نُبح» دون مجيب من كثرة المناشدات والمطالبات للمسئولين عن الضبط والربط فى الشارع ليعطونا أحد حلين: إما ضبط وربط الشارع نظراً لأنه منفلت تماماً، وإما يشاركوننا فيما لديهم من مشكلات وما يواجهون من عقبات لعل الحوار المجتمعى يخرج بحلول قابلة للتنفيذ، فقد قررت أن أنقل النقاش لمنحى آخر. المتابع لمواقع التواصل الاجتماعى، والقارئ لصفحات الحوادث والجرائم، والمشارك فى التجمعات والجلسات الاجتماعية التى تجمع الأهل والأصدقاء يلاحظ أن مسألة السلوكيات المتحللة وضرب عرض الحائط بالقوانين والقواعد والأعراف شكوى تتكرر على مدار الساعة على ألسنة الجميع.
الجميع لديه فى محيط أسرته ما لا يقل عن فرد أو اثنين راحا ضحية رعونة القيادة وغياب المراقبة على الطرق غياباً تاماً، إلا فيما ندر.
والجميع تعرض بشكل أو بآخر لحادث سير نجمت عنه إصابات أو تلفيات فى المركبة بدرجات متفاوتة. والجميع يتفق على أن العنصر البشرى -من رعونة وجهل تام بقواعد القيادة وعبور مارة من أماكن غير مخصصة لذلك بما فيها الطرق السريعة والانشغال عن القيادة بالهاتف المحمول- هو المسئول الأول عن الغالبية المطلقة من نزيف الأسفلت الدائرة رحاه فى أرجاء المحروسة.
والجميع يقف يومياً شاهد عيان على آلاف التكاتك التى ترمح فى الشوارع الرئيسية رمحاً ينم عن ثقة بالغة فى أنهم فوق القانون، وأنه حتى فى الأحوال النادرة التى يتم فيها عمل حملة لمنعهم من السير فى الشوارع الرئيسية، فإن «أهل الخير» يخبرونهم بالاختفاء مؤقتاً واتخاذ ساتر فى الشوارع الجانبية إلى أن تنتهى الحملة دون أضرار.
وما هى إلا دقائق من الهدوء حتى «تعود ريما لعادتها»، وتغزو التكاتك الشارع الرئيسى تحت سمع ونظر مَن بأيديهم تطبيق القوانين.
القوانين التى تلزم قائد السيارة بربط حزام الأمان، وتلك التى تجبر قائد الدراجة النارية على ارتداء خوذة الأمان، وغيرها التى تمنع سير التوك توك والتروسيكل والكارو والسيارات بدون لوحات أرقام، ناهيك عن النصوص القانونية الصريحة فى شأن السير عكس الاتجاه وإيقاف السيارة فى الممنوع وغيرها، لا تطبق فى الشارع المصرى.
وإن تم التطبيق، فيكون بصفة مؤقتة ولا يدوم. وللمرة الألف، مناشدة المواطنين الالتزام هو أشبه بالنفخ فى قربة مقطوعة.
فكل ما حولنا يعكس فوضى شارعية عارمة، وعشوائية حياتية بالغة، والمتضررون الوحيدون هم غير القادرين على مسايرة الفوضى والتأقلم مع العشوائية.
عناوين البلدان تتضح من شوارعها، ومذاقها ينكشف من سلوكيات أبنائها وبناتها، وما تمثله من قيمة ومكانة فى المجتمع الدولى لا يكمن فى مستوى المعيشة، أو متوسط الدخل، أو طول المبانى، أو عرض الشوارع، بل يكمن فى التفاصيل الصغيرة للحياة اليومية فى الشارع.
تعالوا معى نتخيل تفاصيل الحياة اليومية لغير المصرى الذى «تضطره» ظروف عمله للإقامة لعام أو عامين فى مصر: عبور الشارع مسألة حياة أو موت، إشارات المرور ميتة إكلينيكياً، شرطى المرور لا حول له ولا قوة، ضباط المرور غائبون أو موجودون ولكن «يتكتكون» على هواتفهم المحمولة والوحيد الموجود ذو السطوة والهمة هو أمين الشرطة، وما أدراكم ما يفعله بعضهم!! وإن أراد هذا المقيم أن يلجأ إلى التاكسى الأبيض، فإن النسبة الأكبر من العدادات أصابها الضرر «عطلانة»، «لا تعمل»، «مش هنختلف»، «إللى تدفعه»، «إشمعنى أنا إللى هاشغل العداد».
وإذا أراد أن يهرب من مقلاة التاكسى الأبيض فسيجد نفسه محمراً مشمراً فى نار «أوبر» و«كريم» اللذين تم تمصيرهما تماماً.
إلغاء رحلات من قبل السائق لأن الوجهة لا تعجبه، تكييف لا يعمل أحياناً، قيادة خطرة وبالغة السوء، أفأفة طول الطريق، الكثير من السيارات يفتقد بديهيات النظافة.
ونعود إلى السؤال الأزلى: هؤلاء الضاربون عرض الحائط بالقوانين والأخلاق، هل لهم كبير؟ هل ما زال هناك من هو قادر على وقف الزحف الفوضوى العشوائى الجنونى؟ أم بات هذا قدرنا؟!