بقلم : ماجدة الجندى
كنت يوماً فى زيارة لواحدة من بلدان أمريكا اللاتينية.. وحول عشاء لطيف اجتمع بعض المصريين المقيمين، وجرت مقارنة ما بين الفساد فى مصر والفساد فى تلك البلاد.. وبعد تمهل قال لى أحدهم: الفارق بسيط.. فى مصر لو أن هناك عملية رصف شارع، المقاول المصرى سوف يقدرها مثلاً بمائة جنيه، وينفق فعلياً تلاتين أربعين بالكتير ويضع فى جيبه الباقى، يعنى يعملها بكفاءة ثلاثين بالمائة على الأكثر، وهو ضامن أن التسليم والتسلم سوف يتم دون أى منغصات.. لكن فى تلك البلاد البعيدة سوف يصرف المقاول الرقم المناسب لرصف جيد ثم يأتى فساده فى المبالغة فى تقدير التكلفة، لأنه مدرك أن وراءه، رغم الفساد، من يراقب ويتسلم وفق الأكواد القانونية المنضبطة والمضبوطة. لكن مدارس الفساد تتعدد، وتتفوق على نفسها ويبدو أنها عندنا، «تبدع»، وتتفوق على نفسها.
هذا مجرد خاطر مرق بخاطرى وقد تولت «الطبيعة» الكشف، أو أهدتنا -كما يقال فى لغة الدراما- «لحظة تنوير»! فى مواجهة المتغيرات المناخية والأمطار وغيره، صمدت أحياء القاهرة القديمة، التى بناها الغريب المحتل.. وانهارت أحدث المناطق وأكثرها تعبيراً عن «التحولات» الاقتصادية والاجتماعية فى العقود الأخيرة! صمدت أحياء مصر الجديدة والمعادى «الأصلية» والزمالك، رغم كل ما تتعرض له من إهمال عبر السنوات، وغرق «التجمع». لم يقتصر الأمر على «غياب» أوليات «هندسة الطرق»، سواء من حيث التصريف الواجب لمياه الأمطار أو مناسيب الطرق أو نوعيات الرصف، لكن خذ بالك مما جرى لمنشآت، كالأسواق والمولات التى انهارت أسقفها، أو تحولت إلى «مصفاة». لم أرَ أى مفارقة فى الأمر.. الصمود النسبى للأحياء التى تأسست معظمها فى عقود غابرة خضعت على الأقل عند النشأة لأكواد بناء حقيقية، واشتراطات إنشائية، ومراقبة، وكانت هناك قوانين «مفعلة».. كل خطوة فى البناء فى تلك الأيام كانت تخضع «للكود» الواجب.. بناءً وتسليماً وتسلماً... كانت هناك «محاسبة» فى الانتظار.. «ردع» حاضر بالقانون.. عاشت هذه الأحياء تحت معاول الإهمال والهدم ومع ذلك ما زالت صامدة.. منطقة «التجمع»، بطرقها وتقاسيمها الإنشائية ومولاتها وأسواقها وعماراتها وكومباونداتها وسلاطتها وبابا غنوجها، خلاصة زمن المقاولات المعاصرة.. يستطيع أى متخصص فى علوم الاجتماع أو الأنثروبولوجى أو حتى السياسة، أن يتناول بالدراسة، كل من زاويته، «التجمع»، التجمع كحالة «أوجزت»، و«لخصت»، الحالة المصرية فى سياق زمنى استمر عقوداً، تحولت فيه «القوانين» إلى ورقة نبلها ونشرب ميتها، ولم يعد، لا للبناء ولا غيره «أكواد» أو شفرات تراعَى وتحترَم.. «التجمع» رمز لفكرة الإنجاز «باللقطة».. الصورة.. ولا يهم «التفاصيل».. الذى بنى «سوقاً»، أو «مولاً» أو سلَّم طريقاً، لم يصمد لزخات مطر.. هذا واحد «آمن» ويحس أنه «مؤمَّن»، ولا يخشى المحاسبة.. (الدفاتر دفاترنا والورق ورقنا) لكن يبدو أن هذا سوف يتغير.. بشرى خير نزول السيد مدير الرقابة الإدارية، بشرى خير التلويح بالحساب، لكن: من؟ وكم؟ وهل يمكن الحساب بأثر رجعى؟ هل نأتى بمن هندس الطريق ومن نفذ ونأتى بالمواصفات ونراجع ما تم تسلمه؟ كم جهازاً، على شاكلة «الرقابة الإدارية»، نحن بحاجة إليه؟
كل ما أعيشه.. كل ما أتلقاه.. كل خطوة فى اليوم.. كل احتكاك.. يكاد يجعلنى أهتف: «يا رقابة.. الحقينا»!
من أول بلاعات الطرق وحتى ما يجرى فى الآثار الإسلامية!
نقلا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع