بقلم : ماجدة الجندى
قطعنا مسافة ليست بالقصيرة ولا الصغيرة فى مدينة مثل شيكاغو..
أصرت ابنتى، ماجدة جمال الغيطانى، التى تدرس درجة الدكتوراه فى جامعة شيكاغو، أن تتسوق «حاجة رمضان» من بقالة عربية تبعد ساعة بالسيارة عن موضع السكن، مع أن فى الإمكان أن تتسوق نسبة كبيرة من المشتريات المماثلة من السوبر ماركت.. راقبتها تدفع بعربة السوبر ماركت «الشرقى» ولا أقول العربى.. كان مقصدها الأول الأرفف المحملة بأنواع من الخبز الشرقى.. عيش شامى لبنانى.. عيش تركى.. إيرانى.. خبز هندى.. وقفتها عند «الخبز» كانت وقفة تحمل فى طياتها ما يتجاوز عملية الشراء لنوع من الخبز.. كانت وقفة محملة بالشجن والحنين.. قبل سنوات، حين كانت تدرس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، كان والدها يمر عليها بالسيارة فى طريق العودة إلى البيت، يخترقان الحلمية فى الطريق إلى صلاح سالم ثم المعادى.. اختراق الحلمية لم يكن سببه إلا وجود ذلك الفرن البلدى الذى يصر والدها أن يبتاع منه العيش البلدى.. مع مرور الوقت، وتحوله إلى عادة شبه يومية، صار صاحب الفرن يعتنى بأكثر من المطلوب، فيوزع العيش مسبقاً عقب خروجه من النار مباشرة، فوق طاولة من الجريد، ليظل محتفظاً بوش الرغيف «قابب» و«مفقّع».
اقتضى مشوار ابنتى الدراسى إقامات طويلة فى بقاع شتى من لندن وباريس إلى نيويورك وشيكاغو.. ظلت أثمن هداياها أن تحمل إليها، أينما كانت، أرغفة العيش البلدى.. قبل شهور حملت إليها من القاهرة، تقريباً شنطة سفر، ليس فيها إلا العيش البلدى..
أخرجته من الحقيبة، قطعت الأرغفة إلى «أنصاص»، لفتها بمنتهى العناية فى ورق نايلون، وضعت كل كام رغيف فى كيس محكم الإغلاق، ورصته فى الفريزر.. كانت تتعامل مع أرغفة العيش على اعتبار أنها المكافأة.. أو صنف الحلو الذى تكافئ به نفسها.. تماماً كما يتعامل ابنها مالك مع العيش البلدى كأنه «فطير».. حملنا من السوبر ماركت أنواعاً من الخبز، ربما تتشابه من حيث العجينة أو الشكل أو نوع الدقيق بالعيش البلدى.. لكنها ليست «عيش بلدى».. كنت أهرب من عيونها الباحثة عن رغيف بلدى وسط لفائف خبز من أوزباكستان وحتى اليمن.. وأكاد أرهف السمع إلى حوار داخلى لا يصل لأحد غير قلبها... تقاسمت ماجدة وجمال الغيطانى أموراً عديدة فى الحياة، بعضها يمكن أن تعده من قبيل الجينات الوراثية وبعضها الآخر كان نوعاً من تطابق الهوى أو المزاجات.. عمق الانفعال.. طرق فى التعبير.. شدة الإخلاص لما يعتقدان به.. والأهم تلك العلاقة «بالعيش البلدى»...
لم يكن المشوار الذى قطعناه على طوله فى مدينة شيكاغو، إلا سعياً وحنيناً.. فى «اقتفاء» أثر..
اقتفاء أثر «عيش» وأيام..
نقلا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع