في الساحل الشمالي، تكدس آلاف من المصطافين في المكتب الضيق غير المجهز كي يدفعوا ما عليهم من ضريبة مستحقة على بيوتهم الصيفية. وفي القاهرة تدافع الكثيرون للسؤال عن مصيرهم، هل سيدفعون وكم سيدفعون؟ الجميع يخشى الغرامة إن لم تحصل الضريبة في الموعد الذي حددته الحكومة. والجميع لا يعلم شيئا عن إجراءات الاعتراض على تقييم منازلهم. كمثل عادل إمام، يريدون دفع الفاتورة حتى لو لم يملكوا بيتا تنطبق عليه الشروط، تحسبا من بطش الحكومة.
ادفع أولا وتظلم ثانيا. هكذا هو الأمر.
بينما يئن ملايين المصريين بدفع الضرائب على دخولهم الصغيرة، يعترض الأغنياء على دفع الضرائب، حتى لو كان المبلغ تافها، بالنسبة إلى مستوى دخولهم.
تكدس الثروة في بلد فقير
على مدار العقد الماضي، وبينما الحكومة تقترض المزيد من أجل الوفاء بمصروفاتها (والتي تذهب في معظمها لخدمة الأغنياء من المصريين)، راكم أولئك معظم ثرواتهم في شكل عقارات مغلقة، بلغت ١٢،٥ مليون عقار في العام ٢٠١٦، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
إجمالا، يختزن المصريون معظم ثرواتهم في شكل عقارات (وأراض). بالتحديد، ٦٨٪ من الثروة في مصر تتخذ شكلا غير الأصول المالية (وتتخذ تلك الأخيرة شكل أموال الودائع في البنوك، وملكية المصريين للشركات عبر الأسهم أو أوراق الدين مثل السندات وأوراق الدين الحكومي).
ويذكر تقرير كريدي سويس أن مصر كانت ضمن 24 دولة شهدت زيادة في ثروة الطبقة الأعلى ثراء خلال الفترة 2000-2015. ولكن هذه الثروة ليست بالطبع موزعة بالتساوي. بل هي مكدسة في يد أقلية من المصريين. حتى صارت مصر ثالث أكبر بلد في العالم يعاني من اختلال توزيع الثروة، وفقا للإصدار الأخير من هذا التقرير (عام ٢٠١٧).
لماذا ضريبة عقارية؟
من عيوب الضرائب بشكل عام، هي أنها تقتطع من الدخول المتاحة في يد المواطنين، وبالتالي فهي تقلص قدرتهم على الشراء وعلى الاستثمار، وهو ما يضر بأهم عناصر النمو الاقتصادي، فينخفض بسبب فرض الضرائب. إلا أن الضرائب العقارية لا تؤثر على النمو. فهي تفرض في الأساس على أصل أو رأس مال غير مستغل، أو كما يقال في لغة الاقتصاد مخصص لحفظ القيمة. أو على أصل أكبر من أن يفي بمجرد غرض الاستخدام. ففي حين لا يحتاج المرء إلا لغرفة في بيت بغرض المأوى، تمتد الأراضي الفضاء والقصور ذات الحدائق والمسابح الخاصة في المنتجعات والمدن الجديدة وعلى امتداد السواحل المصرية الطويلة.
حتى الشركات، صارت تحتفظ بجزء كبير من أصولها في شكل أراض وعقارات، وهو شكل من الثروة (لا يأكل ولا يشرب، كما يقول المصريون، كما أنه بلا مخاطر). وهو أيضا شكل من الثروة تتزايد قيمته مع الزمن بسرعة فلكية، نتيجة ندرة الأراضي المرفقة (التي تنعم بالبنية الأساسية من كهرباء وصرف وماء). ولذلك فهي الشكل الأهم في مصر للثروة بدلا من توجيهها للاستثمارات خالقة للتوظيف وللقيمة المضافة والمنتجة للسلع القابلة للتصدير. ومن هنا الأهمية الأولى للضريبة.
فهي من شأنها أن تصرف الناس التي تملك فوائض عن اكتنازها في شكل ثروة عقارية غير مستغلة. فإذا ما وجد الأفراد والشركات أن احتفاظهم بتلك الأصول صار مكلفا، فسوف يسعون إلى تحويلها إلى أشكال أخرى من الثروة مثل حصص في الشركات.
علاج تركز الثروة هو أيضا هدف في ذاته. تستحوذ شريحة الواحد في المائة الأغنى من السكان على ٩٩٪ من الثروة في مصر. ولهذا، فإن إعادة توزيع جزء بسيط من هذه الثروة عن طريق فرض الضريبة عليها هو تحقيق للعدالة الاجتماعية ومن ثم الاستقرار والرضا الاجتماعي، في زمن عز فيه الاثنان.
أمران مهمان للنقاش
إذا كانت الضريبة مهمة من أجل النمو ومن أجل العدالة، فإنها مع ذلك من أكثر الضرائب إثارة للجدل والغضب من قبل من يدفعونها. وأولئك هم الأعلى صوتا (بحكم مكانتهم في المجتمع) والأكثر نفوذا. ولهذا غالبا ما تكون حصيلة الضريبة موجهة للإنفاق على المستوى المحلي. حيث كلما زاد عدد القصور والشقق الفخمة في الحي، كلما تحسنت خدماته. ومن جاور السعيد يسعد. في مصر، لم يستطع المشرع إلا توجيه ربع الحصيلة فقط للإنفاق على المستوى المحلي، واحتفظت وزارة المالية في القاهرة بالباقي كله، لتصرفه كما تشاء بعيدا عن أعين دافعي الضريبة. ويؤثر ذلك سلبا على رضا الناس عن دفع الضريبة.
ثانيا: جاء تعديل القانون من عامين بحيث يعاد تقييم العقارات العام القادم، وهو ما سوف يرفع من قيمة الضريبة المدفوعة العام القادم. لهذا سوف يفاجأ الممولون من العام القادم بمبالغ أكبر مستحقة عليهم، وهو ما سوف يزيد من الاحتقان. ولا يبدو من الحكومة حتى الآن أي سياسة للتعامل مع هذين الأمرين، فهي مثلا لم تربط بين كل ما يتم من إصلاحات في الطرق المؤدية إلى الساحل الشمالي أو طريق البحر الأحمر بالضريبة. كما أنها لم تأخذ رأي المجتمع في إعادة تقييم الأسعار والتي تمت بطريقة إدارية سرية ليس فيها من الشفافية ولا من المشاركة المجتمعية في التقييم. كما يغيب أيضا المواطنون عن لجان التظلم، مما يجعل الأمر مواجهة بين بيروقراطي ينتظر رضا مديره لأنه زاد من الحصيلة، وبين دافع الضريبة الذي يرى أنه تعرض للظلم ويرى أنه من حقه أن يشرح وجهة نظره لطرف محايد لا لخصمه.
هل أكلت ماكدونالدز اليوم؟
تنضح أحاديث النخب في المصايف وكذلك المقالات في الجرائد بالامتعاض من تلك الضريبة. وذلك على الرغم من أنها لا تكلف العائلة في العام ثمن وجبة سريعة واحدة. في الحقيقة، لاعتبارات العدالة الضريبية وأيضا لاعتبارات الكفاءة في تخصيص الموارد في البلد فيما ينفعها، فإن الضريبة أقل مما ينبغي. أولا، لأنها موحدة (١٠٪ من القيمة الإيجارية)، وليست تصاعدية. في حين أن الأفضل أن يكون عبئها متدرجا بزيادة الثروة. فكلما زاد البيت عن ٢ مليون جنيه كلما زاد معدل الضريبة عن ١٠٪. وكلما زاد عدد البيوت كلما تضاعف أيضا المعدل، وذلك من أجل التشجيع على تحرير تلك الثروات وإعادة توجيهها فيما يفيد التنمية.
الحقيقة أيضا أن الضريبة اقتصرت حتى الآن على العقارات فقط. بدون التطرق إلى الأراضي الخاوية (النصيب الأكبر منها متراكم لدى الشركات العقارية، غير مستخدم في البناء!). وظلت الودائع البنكية - مهما بلغ حجمها - غير خاضع للضريبة. وبشكل عام، تفتقر مصر إلى الضرائب على الثروة بكل أشكالها. وهو أمر يحاربه الأثرياء بطبيعة الحال، كما توضح تلك القصة.
دعا أحد كبار رجال الأعمال في مصر -حسن هيكل- عقب ثورة يناير بفرض ضريبة على الثروة مرة واحدة فقط (تقدر ب١٠ أو ١٥٪ من إجمالي الثروة من أجل تحسين وضع اللا مساواة، ومن أجل توفير قدر كبير من الأموال في يد الحكومة تساعدها على سد الالتزامات الاجتماعية تجاه المواطنين والتي قامت الثورة من أجل تحقيقها.
وقدمت دراسة حديثة اقتراحا بضريبة على الثروة (بكل أنواعها) مستوحاة من اقتراح الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي. وهي ضريبة سنوية على الثروة تبلغ ١٪ لمن تزيد ثروته على مليون دولار (وهي الفئة الأكبر بين أثرياء مصر)، وتتصاعد مع تصاعد الثروة حتى ٥٪ لمن بلغت ثروته أكثر من مليار دولار. بافتراض زيادة الثروة بمعدل ٥٪ خلال القرن الحالي في مصر، "وإذا بلغ متوسط الضريبة بين جميع الفئات حوالي 1%، يمكن تقدير حصيلة حد أدنى من الإيرادات الضريبية بحوالي 13 مليار جنيه، وحد أقصى 43 مليار جنيه، أي متوسط 28 مليار جنيه (بحساب سعر الصرف في وقت صدور التقرير)". وانتهى الأمر بإنشاء صندوق تطوعي، يتطوع فيه من شاء ويتجاهله من شاء من الأثرياء، ولا يحدد الشعب بطريقة تشاركية أوجه صرف عائده، ولا يراقبها).
***
وأخيرا، يذكر بيكيتي في كتابه رأس المال في القرن الواحد والعشرين كيف كان موظفو الضرائب في أوربا في القرن التاسع عشر (عصر قمة اللا مساواة)، يدورون حول المنازل يعدون النوافذ كي يستدلوا بها على حجم الثراء في هذا البيت الذين لم يكن يسمح لهم بدخوله بطبيعة الحال. فالنوافذ إضافة إلى تكلفة صنعها، والمظهر الفخم الذي توحي به، إلا أنها أيضا تشكل تسريبا للتدفئة التي يتحمل فاتورتها صاحب البيت. لذلك فكلما كثر عدد النوافذ دل ذلك على حجم الثراء. هذا ما يسمى بصنع قاعدة بيانات حكومية عن الثروات الشخصية، ليتم على أساسها تقييم الضريبة.
أما في حالتنا اليوم، فإن صاحب الثروة هو الذي يبلغ عنها طوعا. وتشير الدراسات إلى أنه في حالة الإبلاغ الطوعي، فإن الناس تميل إلى تخفيض يقع بين ١٠-٢٠٪ من حجم الثروة. وقد تزيد النسبة في مصر عن ذلك، خاصة مع غياب أي وسيلة للتحقق، وأي رادع للتهرب (بسبب القدرة على الإفلات من القانون بسبب النفوذ، أو الفساد). ولعل ما حدث في الأسبوع الماضي ما يشي بمحاولة الخروج من هذا الوضع.
فقد رأينا سجالا بين وزير المالية ومحافظ البنك المركزي، حيث يطالب الوزير بقاعدة بيانات عن حائزي الودائع في البنوك. لم يقل الرجل أنه سينشرها بالأسماء، ولا أنه سوف يفرض ضريبة عليها، فقط قاعدة بيانات سرية. ليفاجأ الرجل بتصريح مضاد من محافظ البنك يقطع عليه الطريق بدعوى حماية سرية الحسابات، في حين أن ذلك الإجراء معمول به في كل الدول المتقدمة، من أجل أغراض حصر القاعدة الضريبية، ومتابعة تطور ومنابع زيادة الدخول لدى الممولين.
الاقتباس
كلما كثر عدد النوافذ دل ذلك على حجم الثراء. هذا ما يسمى بصنع قاعدة بيانات حكومية عن الثروات الشخصية، ليتم على أساسها تقييم الضريبة.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع