اختلفت النوايا والتجنب واحد. تحل هذه الأيام الذكرى الأولى لواحدة من أهم الوثائق المسربة عن ثروات أغنياء العالم المخفية خارج بلادهم. جاء في العام الماضي اسم إليزابيث، ملكة بريطانيا في التسريبات التي عرفت ب "أوراق پارادايس". تكشف تلك التسريبات التي تواترت في السنوات الأخيرة أسماء السياسيين والمشاهير ونجوم المجتمع الذين يلجأون إلى إخفاء ثرواتهم عن أعين الرقابة المالية حول العالم.
استثمرت الملكة 10 مليون جنيه إسترليني في إحدى الشركات التي تخفي أرباحها في ملاذات السرية المالية، ونتج عن ذلك أن كل الدخول وكل الأرباح الرأسمالية والتي تحققت عن هذا المبلغ كانت معفية من الضرائب. ولكن يقول بيان صادر عن البلاط الملكي أنها رغم أنها معفاة أصلا، إلا أنها تدفع الضرائب طواعية داخل بلدها.
على غير ذلك جاء موقف ميسي، ساحر الكرة. كان الفتى وأبيه خاضعان بالفعل للتحقيق في إسبانيا لأنهما قد استخدما شركات في أوروجواي وبيليز من أجل أن يتفادوا دفع ضرائب تقدر بملايين من الدولارات حين كشفت "أوراق پنما الجديدة" عن شركة جديدة يستخدمها لنفس الغرض. وفي يوليو 2016، حين أدانت محكمة إسبانية ميسي وغرمته 2.2 مليون دولار والحبس 21 شهرا مع إيقاف التنفيذ كانت شركة الاستشارات القانونية في بنما "موساك فونسيكا" تستقيل من موقعها كوكيل أعمال مسجل لشركة ميسي وأبيه. انتهى الأمر بميسي أن يغلق تلك الشركات، فصار تهربه من الضرائب أمرا من الماضي.
كما يتضح من تلك الأمثلة وغيرها الكثير، هناك استخدامات مشروعة للصناديق وللشركات التي تتخذ من تلك الدول والولايات مقرا لها. ولا يمكن القول بأي حال بأن أولئك الذين يأتي ذكرهم في تلك التسريبات قد خرقوا القوانين أو أنهم تصرفوا بشكل غير نزيه. فلا شيء غير قانوني في إقامة أي شركة في أي دولة أو ولاية.
ولكن ما تكشفه التسريبات في الحقيقة، هي أن هناك جيوشا من شركات المحاسبة وشركات المحاماة والمستشارين الذين يساعدون الشركات الكبرى متعددة الفروع حول العالم، بغرض تخفيف العبء الضريبي الذي تتحمله تلك الشركات أو أصحاب تلك الشركات. وأحيانا أخرى يكون ذلك الجيش في خدمة سياسيين يريدون إخفاء أموالهم عن أعين الأجهزة الرقابية. بل وفي أحيان ثالثة تكون في خدمة غسيل الأموال المتراكمة من تجارة السلاح والمخدرات والإرهاب وغيرها من الأغراض غير المشروعة.
أوراق بنما (والتي كان بطلها محليا علاء مبارك) إنما تكشف عن قمة جبل الجليد. فالجزء الثاني من تلك التسريبات والذي ظهر في العام الحالي يكشف عن مكتب واحد في جزيرة واحدة، يتعامل مع 350 ألف شخص حول العالم. كلهم من أغنياء العالم ذوي الحيثية.
دافع مكتب موساك فونسيكا عن أعماله مؤكدا بأنها تمت كلها في إطار القانون، ولكنه انتهى بالإغلاق.
ملذات وملاذات
على عكس الانطباع الذي تخلفه تلك التسريبات، من أن الجزر الصغيرة ذات الشواطئ الخلابة هي الملاذات الأكبر لمحبي السرية المالية، فإن الحقيقة هي أن الدول المتقدمة الكبرى في عالم رأسمالية اليوم هي كعبة المتهربين والفاسدين.
تقع سويسرا والولايات المتحدة وألمانيا واليابان ضمن أكبر دول تجتذب الاستثمارات بسبب ما تمنحه من سرية مالية لعملائها. وتتصدر إنجلترا المركز الأول إذا ما جمعنا أنصبة كل الدويلات/ الجزر التابعة للتاج البريطاني إلى نصيب المملكة المتحدة. وذلك بحسب مؤشر السرية المالية لعام 2018، والذي تعده شبكة العدالة الضريبية، إحدى أهم منظمات المجتمع المدني الدولية في هذا المجال وأكثرهم مصداقية.
وتضم القائمة عربيا دولة الإمارات العربية (دبي) ولبنان في مراكز متقدمة تليهم البحرين.
كمثل التاجر حين يفلس، فيفتش في دفاتره القديمة، دفعت الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008 العالم المتقدم المأزوم والذي بات يعاني من تزايد الدين الحكومي إلى الالتفات إلى ذلك النزيف من الأموال التي تتسرب من الضرائب داخل كل دولة كبرى. وهكذا بدأت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (نادي الأغنياء) في التفتيش، لتكتشف أكثر من 400 خطة معقدة من أجل تجنب دفع الضرائب، تستخدمها الشركات حول العالم، الكثير منها غير قانوني.
وهكذا، تتراوح بين 21 إلى 32 ألف مليار دولار (12 صفرا!) التقديرات لإجمالي الثروات الخاصة التي تكمن في الولايات القضائية ذات السرية المالية غير خاضعة للضرائب أو إلا لقليل جدا من الضرائب.
تتميز معظم الدول العظمى التي لديها ضرائب مرتفعة على أراضيها المباشرة، بأنها تبسط سيطرتها على أقاليم أخرى صغيرة لا تطلب إلا القليل من المعلومات عن الشركات التي تستثمر بها، والأقل عن الملاك الحقيقيين لتلك الشركات. ومن ثم، تعمل الدول الكبرى كمسارات أو مقرات للشركات التي تنشد السرية، تسهل انتقال الأموال من وإلى الملاذات الصغيرة. ولا يمنع ذلك من تملك الشركات فروعا أو شركات فرعية في عدد من الجزر والدويلات أو الولايات (في حالة أمريكا). ويتطلب الأمر الكثير من البحث، أو تسريبا من مكتب أو من بنك كي نكتشف أن شركة ما يملكها هذا الرجل أو تلك السيدة من ذوي الحيثية. غير ذلك يظل المالك المنتفع بأرباح تلك الشركات مخفيا.
كمثل التاجر حين يفلس، فيفتش في دفاتره القديمة، دفعت الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008 العالم المتقدم المأزوم والذي بات يعاني من تزايد الدين الحكومي إلى الالتفات إلى ذلك النزيف من الأموال التي تتسرب من الضرائب داخل كل دولة كبرى. وهكذا بدأت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (نادي الأغنياء) في التفتيش، لتكتشف أكثر من 400 خطة معقدة من أجل تجنب دفع الضرائب، تستخدمها الشركات حول العالم، الكثير منها غير قانوني.
وهكذا، تتراوح بين 21 إلى 32 ألف مليار دولار (12 صفرا!) التقديرات لإجمالي الثروات الخاصة التي تكمن في الولايات القضائية ذات السرية المالية غير خاضعة للضرائب أو إلا لقليل جدا من الضرائب. مبالغ تستحق المعارك بين الشركات والشعوب. فكل تلك المبالغ هي فرص ضائعة للاستثمار في البشر وفي المستقبل.
المصريون يفضلون سويسرا
في كل مرة تم الإعلان عن تسريبات جديدة، تأتي، ضمن من أقاموا شبكات من الشركات في ملاذات المالية السرية، أسماء شخصيات، عربية ومصرية، وبعضها من كبار رجال الأعمال والمشاهير وبعضها من قدامى السياسيين الذين أفل نجمهم بعد ثورة يناير 2011.
تقدر شبكة العدالة الضريبية حجم التجنب الضريبي في مصر بقيمة 68 مليار جنيه في عام 2012. ويحمل موقع التحالف الدولي للصحافيين الاستقصائيين وحده أسماء 722 شركات ومسؤولين في شركات ذات مقرات في ملاذات السرية المالية، منهم من هم في مواقع مسؤولية سياسية حالية.
ويرد اسم مصر في إحدى أهم الدراسات الأكاديمية التي نشرت مؤخرا عن الملاذات الضريبية وأثرها على اللا مساواة، حيث يتضح من الدراسة أن نزيف الأموال الخارج من مصر ينتهي معظمه في سويسرا. فنصيب سويسرا من الودائع المصرية أعلى من نصيب الملاذات الضريبية الأخرى مجتمعة. كما أن نصيب حجم الودائع المصرية في سويسرا إلى ودائع العالم هو أعلى كثيرا من نسبة الدخل القومي المصري إلى الدخل العالمي (يقترب مع نصيب السعودية/الدخل القومي السعودي).
ولكن لا يعني ذلك أن المصريين أفرادا وشركات لا يستخدمون الملاذات الأخرى.
بل تتميز معظم الشركات التي تم بحثها في حالة مصر بأنها تستخدم وسائل هي الأحدث، والأكثر تنوعا وتعقيدا.
على غرار عائلة ساويرس، والتي ورد ذكرها في معظم التسريبات السابقة، يستثمر الكثير من المصريين اليوم عبر شركات أجنبية، تتنوع مقراتها وفروعها وتتشابك ملكياتهم في كل تلك المجموعات العالمية الكبرى. وليس ذلك إلا مثالا عن كثير من الاستثمارات "الأجنبية" في مصر. وآخرها شركة ثروة التي طرحت هذا الأسبوع أسهمها في البورصة وتملكها شركة في موريشيوس (لها نفس الملاك المصريين الذين يملكون الشركة المصرية).
ويحذر صندوق النقد الدولي مصر من التجنب الضريبي الذي قد ينتج من مثل هذه الشبكات من الشركات في تقرير صدر العام الماضي.
"اقترب الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 30٪ من الناتج المحلي في السنوات الأخيرة (...). وتأتي نسبة معتبرة من تلك الاستثمارات من ولايات قضائية ذات ضرائب خفيضة على الشركات و/أو ذات ضرائب على أنشطة الشركات العابرة للحدود، مثل التوزيعات النقدية، الفوائد وحقوق الملكية. وكثيرا ما يكون ذلك علامة على التخطيط الضريبي الهدام. حيث توجه الشركات متعددة الجنسيات بشكل غير مباشر استثماراتها من خلال تلك الولايات القضائية كي تستفيد من انخفاض الضريبة. وتشير البيانات (...) إلى أن ثلاثة من كل عشر شركات مصرية تملك شركة تابعة في بلد أجنبي لديها تكون على علاقة مباشرة بولاية قضائية ذات معدل ضريبة منخفض (ملاذ ضريبي)". تركت مجموعة أوراسكوم مصر في عام 2015 لتتخذ مقرا لها في هولندا. وهي بلد أوروبي متصل بأحد أهم الملاذات الضريبية (لوكسمبورج) يجذب المستثمرين الأجانب بقابل شروط معينة. ويشرح التقرير السنوي للشركة كيف أن تعدد الشركات التابعة للمجموعة في ولايات قضائية مختلفة (تتراوح معدلات الضرائب بها بين صفر و42.8٪) أتاح للشركة أن تدفع معدل ضريبة يبلغ 21.8٪. يقدر هذا الوفر ب43.3 مليون دولار خلال عام 2016، وفقا لنفس التقرير.
يذهب صندوق النقد الدولي إلى أن مصر تعاني من انخفاض كفاءة الضرائب على الشركات، بسبب كل الأموال التي تتسرب خارج البلاد في أشكال تبدو قانونية (نفقات استشارات وخدمات أو فوائد...) وبسبب الإعفاءات الضريبية -خاصة تلك التي تمنحها المناطق الحرة والتي يفضل الصندوق إلغاؤها (المناطق). كما يرصد التقرير ذاته الأثر السلبي الناتج عن توقيع مصر لعدد كبير من اتفاقيات منع الازدواج الضريبي (وهي اتفاقيات هدفها أن تسمح للمستثمر الأجنبي أن يختار أين يدفع ضرائبه بين بلده الأصلي أو البلد الذي يستثمر فيه) انتهت في الحالة المصرية إلى "ألا يدفع المستثمر في أي من البلدين"، بحسب قول مسؤول سابق عن الملف في مصر.
تحاول مصر حاليا سد العديد من الثغرات الضريبية، مثل تعديل تلك الاتفاقات، كما جمدت التوقيع على اتفاقيات جديدة. كما فرضت مصر العديد من الإجراءات للكشف عن المالكين المنتفعين للشركات التي تستثمر في البورصة، ووقعت على اتفاقية دولية لتبادل المعلومات الخاصة بالضرائب. ولكن، فشلت الدولة في إلغاء المناطق الحرة، بسبب الضغط الهائل الذي مارسته الشركات المنتفعة.
وتبقى المعركة مستمرة.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع