بقلم - سلمى حسين
ما حدث فى الزيارات التفقدية الثلاث الماضية لصندوق النقد الدولى لا يجب أن يمر. ولا يجب أن يتكرر هذه المرة. أو على الأقل يجب أن نسمع تبريرا من أطراف تلك القصة العجيبة.
يزور خبراء الصندوق مصر مرتين كل عام، للتأكد من أن مصر اتبعت البرنامج الزمنى المتفق عليه للإجراءات الاقتصادية خلال الأشهر الستة الماضية. زار الفريق مصر ثلاث زيارات سابقة، وبدأ الأسبوع الماضى زيارته الرابعة.
وقصتنا المتكررة هى أن مصر لا تلتزم ــ فى كل مرة من المرات السابقة ــ إلا بأقل القليل من شروط برنامج الصندوق. فلنبدأ أولا من حيث الكم. عدد الإجراءات التى لم تلتزم مصر بتنفيذها أو الأهداف التى لم تستطع بلوغها.
فى الزيارة الأولى، بعد مرور ستة أشهر على اتباع مصر لوصفة الصندوق من تحرير سعر الصرف، مع رفع سعر الفائدة لاحتواء التضخم، وذلك كشرط مسبق للحصول على قرض 12 مليار دولار. ولكن فشلت الإجراءات المتفق عليها فى احتواء أثر التعويم على التضخم وعلى سائر مناحى الاقتصاد.
ولكن نجد أن برنامج الصندوق المقسم إلى مراحل وأهداف لتنفذها أو تحققها الحكومة كى تحصل على البركة وعلى دفعة من القرض، لم ينجز معظمه.
حيث رصدت المبادرة المصرية فى تقريرها الأول «عين على الدين 1» أنه من إجمالى 13 إجراء أو هدفا كان على الحكومة تحقيقه، لم يتحقق سوى 4 فقط. على رأس تلك الأهداف التى لم تستطع مصر تحقيقها كان خفض معدل التضخم. حتى إجراء شكلى بسيط وهو تخصيص مبلغ ربع مليار جنيه لبناء الحضانات من أجل تشجيع الأمهات على الالتحاق بسوق العمل، لم توفه الحكومة.
وتواصل الأداء الحكومى، فى الفترة الثانية، ضعيفا. فقد نفذت الحكومة نصف المطلوب منها فقط من إجراءات، وأجلت الباقى. وفى هذا الرابط فيديو مختصر لأهم ما جاء فى تقرير عين على الدين2.
أما فى الفترة الثالثة، وهى الفترة التى امتدت إلى منتصف العام 2018، فإن الحكومة نفذت وحققت أربعة من الإجراءات فقط من أصل 14 إجراء، بحسب الجدول المنشور فى تقرير المتابعة الثالث الصادر عن الصندوق فى نهاية يوليو الماضى. وكانت الإجراءات التى تم تنفيذها غير جيدة من حيث الأثر الاقتصادى والاجتماعى، بحسب تقرير «عين على الدين 3».
ورغم ذلك الإنجاز الضعيف، صدرت تقارير الخبراء فى المرات الثلاث مشيدة بالإصلاحات الجريئة والناجحة التى قامت بها مصر، مانحة إياها الشرائح المستحقة من القرض.
التعهد الذى لم تلتزم به الحكومة أبدا
وأما من حيث الكيف، فإن الإجراءات القليلة التى التزمت بها مصر هى فى معظمها إجراءات إما مؤلمة لملايين من المواطنين، أو ضارة بالنشاط الاقتصادى، أو تحابى كبار موظفى الحكومة على حساب صغارهم، أو أكثر رحمة بالشرائح الدخلية العليا منها بالشرائح الوسطى والأدنى.
فلنبدأ بالتعهد الذى لم تلتزم به الحكومة قط: الشفافية. هناك معلومات لم تنشرها مصر وتغاضى عنها الصندوق. وهناك بيانات يخفيها كل من الحكومة والصندوق، بما يعوق أى تقييم مستقل لمدى نجاح البرنامج. وهناك بيانات تشير إلى عدم تحقق بعض الأهداف، لكننا لا نجد أى اعتراف بهذا أو مراجعة لهذا الهدف.
أولا: لم تلتزم الحكومة بأى من التعهدات التى تعهدت بها فيما يتعلق بالشفافية ونشر المعلومات. على سبيل المثال: يرصد «عين على الدين 3» أن الصندوق تغاضى عن ثلاثة إجراءات تتعلق بشفافية البيانات والمعلومات كان قد نصَّ عليها البرنامج الأصلى ولم تلتزم بها الحكومة على مدى المراجعتين الماضيتين اللتين قام بهما، مثل: النشر الدورى لتقرير السياسة النقدية (نشر مرة واحدة) وتقرير الاستقرار النقدى ونشر ورقة استراتيجية التخطيط المالى للأجل المتوسط. أما تقرير المراجعة الثالثة الصادر عن خبرائه فقد خلا من أى إشارة إلى وجود تلك الإجراءات فى جدول الالتزامات.
إذن، الرسالة هى أنه لا الصندوق ولا الحكومة جادان فى كل ما يتعلق بالشفافية ونشر المعلومات.
ثانيا: غاب عن تقرير الصندوق الثالث بعض البيانات المحدثة الهامة. لنأخذ مثلا: الدين العام، أحد أهم المؤشرات المراد تخفيضها كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى. وكان التقرير الثانى قد أشار إلى أن الدين العام المحلى قد سار فى الاتجاه المعاكس، مرتفعا إلى 3.8 تريليون جنيه فى العام التالى للتعويم، أى من 96.9٪ إلى 108.5٪% من الناتج (أعلى بأربع درجات مئوية من توقع الصندوق). هل واصل الارتفاع؟ فيم أخفقت الحكومة؟ فيم أخفق الصندوق؟ أم هل نجحا؟ لا نملك بيانات كافية كى نستطيع أن نحكم بشكل مستقل. كل ما نملكه من بيانات يشير إلى أن الحكومة ضغطت إنفاقها على أجور موظفيها الصغار، وعلى تقديم السلع والخدمات الضرورية لعلاج المرضى والتلاميذ وغيرها من ملامح الإنفاق الضرورى.
ثالثا: فى حالة تخفيض فاتورة دعم الطاقة، فقد أوضحت البيانات الرسمية فشل الحكومة فى تحقيق هذا الهدف. والمتهم الأول: التعويم. ثم زاد الطين بلة الارتفاع العالمى فى أسعار البترول. للمفارقة، كانت الخطة المصرية ناجحة فى تخفيض المبلغ المخصص سنويا لدعم الطاقة خلال الفترة 2013ــ2016، أى قبل برنامج الصندوق. ولكن ذهب كل ذلك أدراج الرياح، وعدنا إلى المربع الأول، لتصل فاتورة الدعم المتوقع فى عام 2017ــ2018 إلى مبلغ 120 مليار جنيه، ليقترب من مستواه الأعلى فى التاريخ (126 مليار). ترتفع أسعار الطاقة ونعانى ولا تنخفض فاتورة الدعم. هل من مكاشفة هنا؟ لا يطالب الصندوق بها على كل حال.
هل نحتفل بأعلى نمو فى الشرق الأوسط؟
احتفى المسئولون فى مصر وفى صندوق النقد بتحقيق الاقتصاد المصرى لمعدل نمو أعلى من المتوقع. ولكن هناك أكثر من سبب يدعو للحذر.
بحسب المتاح من بيانات يمكننا التوصل إلى أن النمو لا يخدم الفقراء ولا مضمون الاستدامة.
فقد كانت المحركات الأساسية للنمو خلال العام 2017، بحسب الصندوق «قطاعات السياحة الإنشاءات واكتشافات الغاز الطبيعي». وتشير استطلاعات رأى الشركات مثل إصدار أغسطس من «بارومتر الأعمال»، أن الشركات الكبرى قد أفادت من النمو أكثر من الشركات المتوسطة والصغيرة، التى ما زالت تعانى جراء ارتفاع التضخم، ولا تتوقع أى زيادة فى استثماراتها أو فى عدد موظفيها.
بل إن نمط النمو معيب منذ ثلاثة عقود. وما زال، بحسب ما جاء فى تقرير المراجعة الثانى للصندوق. حيث قدم التقرير تحليلا لنمط التراكم الرأسمالى المسيطر على العمليات الإنتاجية منذ التسعينيات وحتى الآن.
وهو نمط يتسم بالتعميق الرأسمالى على حساب التوسع الرأسمالى. أى أن الاستثمارات تتجه إلى زيادة رأس المال لكل وحدة عمل (مثل شراء معدات جديدة حديثة لنفس المصنع)، وهكذا تزيد نسبة رأس المال لكل عامل. ويؤدى ذلك النمط إلى محدودية خلق فرص العمل الناتجة عن الاستثمارات الجديدة. وذلك بدلا من ضخ رءوس الأموال فى بناء مصانع جديدة بحيث تؤدى زيادة رءوس الأموال إلى زيادة التوظيف. وهذا يشير إلى عدم ملاءمة الحوافز الممنوحة للاستثمار لاحتياجات الاقتصاد المصرى.
ومن ناحية أخرى، ليست كل زيادة فى التوظيف خير. فالعبرة هى بنوعية الوظائف. هل هى وظائف لائقة، هل تراعى أجورها مستوى المعيشة، ويتمتع صاحب الأجر فيها بتأمين يغطى معاش شيخوخته وبتأمين صحى وبإجازات مدفوعة الأجر؟. الإجابة غير مطمئنة.
إذا نظرنا إلى قطاع التشييد والسياحة، فإن طبيعة الوظائف التى تتيحها تلك القطاعات هى مؤقتة، وغير مؤمن عليها، ولا ينطبق عليها قرارات الحد الأدنى للأجر. أما قطاع البترول والغاز الطبيعى، فهو يتميز بكثافة رأس المال، أى أنه يتطلب الكثير من رءوس الأموال وقليلا من فرص العمل. فهل لنا أن نحتفل بهذا النمو أم نسعى لخلق نمط نمو مخالف؟
بين مصر والصندوق.. الخلاف الأخير
ليس بأمر سيئ ألا تسمع مصر كلام الصندوق.. أحد أهم المخاطر التى تحيق بالاقتصاد المصرى هى انخفاض جديد محتمل فى قيمة الجنيه خلال ما تبقى من العام، قد يرفع التضخم إلى فوق 20٪. يأتى هذا الضغط على الجنيه من عوامل خارجية لا يد للحكومة فيها (إلى حد كبير). وحتى الآن نجحت مصر فى تفادى حدوث ذلك.. وللعجب.. لا يرضى ذلك خبراء الصندوق، كما ورد فى تقارير المراجعة الثانية والثالثة.
منذ رفع سعر الفائدة لمواجهة التضخم الناتج عن التعويم، تدفقت مليارات الدولارات على مصر لشراء أوراق الدين الحكومية قصيرة الأجل بالعملة المحلية، طمعا فى تلك الفائدة المرتفعة، وفى استقرار سعر الصرف. هى ديون خارجية متخفية فى شكل ديون محلية، يستطيع أصحابها أن يخرجوا من مصر وقتما شاءوا مستبدلين أرباحهم بالجنيه إلى عملة صعبة. وهو ما حدث ويحدث وسوف يحدث فى الأجل القصير.
إجمالا خرج حوالى 9ــ13 مليار دولار (ثلث إلى نصف المبلغ الذى دخل عقب التعويم). ونجح البنك المركزى فى تفادى تأثير ذلك الخروج المكثف على قيمة الجنيه. حتى الآن. تحقق ذلك عن طريق احتفاظه بحسابات غير معلنة (خارج الاحتياطي). وكان الصندوق قد أخذ تعهدا على الحكومة والمركزى بإلغاء مثل تلك الحسابات تدريجيا.
ومع تزايد الضغط على الجنيه ينصح الصندوق بالإبقاء على سعر الدولار حرا، بلا ضوابط على خروج الدولارات، وبلا ضوابط لحماية المزيد من المواطنين للنزول تحت خط الفقر. قد لا تستطيع تحويشة البنك المركزى إنقاذ الجنيه مما سيأتى.. فهل يعود الاقتصاد إلى نقطة الأزمة وكأنك يا أبو زيد ما غزيت؟
الخلاصة: كل الأهداف والإجراءات ما هى إلا تفاصيل. المهم هو: حرية سعر الصرف، رفع سعر الفائدة ورفع الدعم عن المحروقات للأفراد. طالما التزمت الحكومة بتلك الإجراءات الثلاثة، سوف تمنح شهادة الثقة من الصندوق. ولماذا تحتاج الحكومة شهادة الثقة؟ كى تستمر فى الاقتراض من الخارج ومن الداخل. ولا يسأل الصندوق أبدا عن تطبيق مصر لتلك المبادئ التى ينادى بها من شفافية ومشاركة شعبية واسعة حين تنفق تلك القروض. ولا ينزعج الصندوق إذا ما اتسع عجز الموازنة. ولا يسأل أى نوع من النمو تحقق. ولا عن عدالة التوزيع. الصندوق لا يمثل أحلام المصريين. فماذا عن الحكومة؟
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع