بقلم : إيهاب الملاح
كان اختيار شخصية معرض القاهرة الدولى للكتاب 2018 (فى دورته الـ 49) للكاتب الراحل متعدد المواهب عبدالرحمن الشرقاوى (1920ــ1987) اختيارا موفقا ورائعا لأسباب؛ منها إعادة التذكير بل ضرورة التذكير بشخصية ثقافية مبدعة بامتياز، قدمت للإبداع العربى وللثقافة المصرية شيئا كبيرا ومهما وإنجازا رائعا ومتعدد الجوانب والاتجاهات؛ فى الشعر والرواية والمسرحية الشعرية والتراجم والسير الإسلامية، وفى الصحافة والعمل الثقافى العام.
وتزامن هذا الاختيار والفاعليات المرتبطة به ضمن أنشطة معرض الكتاب، مع ظهور طبعات جديدة أنيقة وثوب فنى معاصر من أعمال عبدالرحمن الشرقاوى الروائية والشعرية والمسرحية وفى التراجم والسير الإسلامية عن دار الشروق، وفى أغلفة مبهجة رفيعة الذوق؛ لتكون بين أيدى عشاق ومحبى وعارفى قدر وقيمة الشرقاوى؛ فضلا على إتاحتها للأجيال الجديدة ليتعرفوا على إبداعات كاتب أصيل وغزير الإنتاج مثل الشرقاوى.
ومنذ نشره لديوانه ذائع الصيت «رسالة من أب مصرى إلى الرئيس الأمريكى «ترومان».. وقصائد أخرى» مطالع الخمسينيات من القرن الماضى؛ وعبدالرحمن الشرقاوى ثبت أقدامه فى قلب مشهد الإبداع المصرى؛ لم يغادره حتى وفاته عام 1987؛ وبقى أثره العميق فى نفوس وقلوب من قرأوه بحب واستنشقوا عبير كلماته الفواح؛ واهتزوا لإيقاعاته الشعرية بادية القوة والعنفوان، وتأثروا بالحماسة المتدفقة والسلاسة التى كان يكتب بها الشرقاوى إبداعاته كلها.
«رسالة من أب مصرى إلى ترومان»، كانت الصيحة الأولى التى أطلقها الشرقاوى ليعلن ريادته لحركة شعرية جديدة؛ نُشرت القصيدة مع قصائد أخرى فى كتاب مستقل عام 1953، فى القاهرة ثم بيروت، وحقق نجاحا هائلا وفتح الباب على مصراعيه لكل التجارب الشعرية الجديدة كى تعلن عن نفسها.
كان جديدا تماما أن يستحضر شاعر معاصر الأحداث والوقائع الكبرى فى ذلك الوقت ليصوغ منها قصيدة؛ يتوجه فيها بالخطاب إلى رئيس أكبر دولة مهيمنة فى العالم كله، بالكلمة والصورة والإيقاع يقول له إنه يخشى على مستقبل ابنته الصغيرة الذى هو مستقبل كل أطفال العالم الذين هددتهم وأرعبتهم ما خلفته القنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكى من دمار مروع. فى هذا الديوان الرائد؛ يؤسس الشرقاوى «شاعرا» لطموح فنى يسعى لصياغة خطاب شعرى جديد، يهتم بهموم البشر وقضايا الوطن والبحث عن حلم العدالة والحرية. ويكفيه أنه ألقى البذرة وفتح الباب؛ وسجل ريادته فارسا من فرسان الكلمة، مناضلا شجاعا يسعى إلى تحرير الوطن والمواطن وتحقيق العدل الاجتماعى.
ورغم ريادته الشعرية التى لم تجاوز المعرفةُ بها دوائر الأكاديميين والمثقفين والمبدعين؛ فإن شهرته الأكبر والأوسع بين الجمهور كانت بسبب روايته الأشهر «الأرض» التى تحولت إلى فيلم سينمائى أخرجه يوسف شاهين. كانت «الأرض» إعلانا عن كاتب انحيازاته واضحة وصريحة؛ مهموم بالفلاحين والأرض التى ارتبط بها ونشأ فى أحضانها ولم يكن غريبا أن يكون من بين أعماله ثلاثة نصوص عناوينها «الأرض» و«الفلاح»؛ و«عرابى زعيم الفلاحين».
لكن أفضل أعماله فى رأيى، وأكثرها قربا من نفسى، روايته المؤثرة الجميلة «الشوارع الخلفية» التى قرأتها وأنا فى المرحلة الثانوية؛ كانت رواية ضخمة تقع فى ما يزيد على 350 صفحة من القطع الكبير، ومع ذلك فقد أنهيتها فى ليلة واحدة؛ وأذكر أن الصفحات الأخيرة منها قد ابتلت من دموعى التى تفجرت بغزارة ونهنهة لم أعهدها فى نفسى من قبل وأنا أقرأ مشاهدها الأخيرة؛ هذا كاتب يكتب بوجدانه وعاطفته وجماع مشاعره وأحاسيسه يسخرها ويجسدها حروفا وكلمات تتدفق على الورق.
فى مجال المسرح، كتب الشرقاوى عددا كبيرا من المسرحيات الشعرية المهمة، وكان رائدا فى هذا الميدان أيضا؛ وهو أول من استخدم «الشعر الحر» فى المسرح استخداما حقيقيا ناجحا تخلص فيه من المفردات والجمل الكلاسيكية الجزلة التى كانت سائدة فى المسرحيات السابقة عليه، فضلا على أن أبطاله ـ فى الغالب الأعم ـ كانوا مناضلين من عامة الشعب، لا من الملوك والصفوة.
وقد نجحت مسرحيته الأولى «مأساة جميلة»، نجاحا كبيرا، حين عرضها المسرح القومى (1962)، ثم توالت مسرحياته: «الفتى مهران» (1965)، وهى أفضل مسرحياته، ثم نشرت مسرحيته «ثأر الله: الحسين ثائرا والحسين شهيدا» (1969)، وله أيضا: «النسر الأحمر»، و«وطنى عكا»، و«عرابى زعيم الفلاحين»، ومسرحيات أخرى.
وللحديث بقية..
نقلا عن الشروق القاهريه