بقلم : بسمة عبد العزيز
ما بين السقوط نومًا والصحيان التام، مرحلة وسطى، تلتحم فيها الحقيقة الملموسة بأشباح من صنع الخيال. برزخٌ تختلط داخله الأمور، ويعمى المرء عند ولوجه عن إدراك حاله بوضوح، مهما بذل مِن جهد؛ يعجز عن تصنيف ما يبصر ويسمع، وتغم عليه المشاعرُ والأحاسيس. تظهر الأشياءُ على غير المألوف؛ مضحكة أحيانًا، ومخيفة أو مثيرة للتوتر في أحيان أخرى، وربما صادمة، تشلّ الفكر والفعل معًا.
حين يكتمل الصحو وينتبه العقل ويستفيق، يغدو تمييز الحقائق البسيطة والمفاهيم، عملًا سهلًا لا يحتاج مَجهودًا مُضنيًا، ولا يتطلَّب مهاراتٍ مُتفوقة. يبدو المقعد مِقعدًا، والشجرةُ هي الشجرة، والحمار حمارًا، لا إبهام ولا تعقيد، ولا مشاعر ملتبسة تُعجِز صاحبُها عن استبصار المحيط.
ثمَّة أحداثٌ قد تدفع بنا لفرط غرابتها أو ربما لعظيم قسوتها، إلى منطقة مُشوشة، يكتنفها الغموض، نختبر حال اللايقين في كامل صَحوِنا ونبيت في حيرةٍ أمامها، رغم استفاقتنا الأكيدة وتيقُّظ وعينا.
على مدار الأشهر القليلة الفائتة، ينتابني شعور مُتفاقِم بأنني عالقةٌ في برزخ يحفه الالتباس وتحوطه الشكوك، محاصرة بين حلم مفزع يعلن نفسه واقعًا، وواقع لا تتحقق شروطه عقلانيةً. لا صحيان ينهي فزعَ الحلم الكئيب، ولا نوم يزيح عبثَ الواقع ويُسكِّن مَخاوفه. أدركت مؤخرًا أن الوقوع تحت وطأة هذا الشعور المؤرق بالغرابة، وذاك الستار الذي يرخي سدوله، فيضبب الرؤية ويحيلها إلى عالم عجائبيّ، لأمر شاع واستشرى. حال استبدت بكثيرين مِن المعارف والأصدقاء والصديقات، وأبت أن تبارحهم.
يقول صديق لم يزل بعد في سني الشباب؛ أنه متأكد أن ما يحدث مِن حوله حلمٌ سخيف، وأنه ينتظر أن يصحو مِنه، وتقول أخرى في منتصف العمر؛ لا يمكن أن تكون الوقائع التي نسمع عنها ونقرأ، حقيقة، بل هلوسات جماعية سرعان ما تنقضي. تتراوح النقاشات بين عناوين كبيرة وتفاصيل صغيرة؛ خطابات متناقضة في بنيتها بما لا يستسيغ العقل، احداث تحيط بها ملابسات مبهرة تفوق أقصى الأحلام طرافة وتطرفًا، أوضاع لم تكن في الحسبان، لا يمكن تصديقها ولا استيعابها.. هل نحلم أننا جدًا فقراءٌ، أم أن واقعنا حقًا فقير؟ هل من إنجازات فعلية لا تمسّنا؛ لا نراها ولا نشعر بها ولا بأدنى انعكاس من انعكاساتها، أم أن الحديث من نسج خيال معتل؟ هل فقدنا عقولنا أم أننا بالفعل في حلم مزعج طال وامتد؟
على ذكر الأحلام؛ حكت صديقة طفولة في اللقاء الذي جمعنا بعد غياب طويل، أنها تذكر حلمًا قديمًا ظل يراودها لفترة، تقود فيه دراجة كانت تشتهيها وترغب في اقتنائها. عرفت في مرات عدة أنها تحلم، كانت تحاول التشبث بالمقود بكل ما أوتيت من قوة وعزم، لعلها تصطحب الدراجة معها من الحلم إلى الحقيقة، وتصحو في فراشها وهي تتصور أن محاولتها نجحت، لكن الدراجة لم تكن أبدًا هناك. تذكرت حكايتها حين قرأت منذ أسابيع أن ثمة دراسات وأبحاث وتدريبات تصاغ، بل وتجارب تُجرى بنجاح، بهدف التحكم في الأحلام؛ في محتواها ومداها الزمني ومسارها. يعتمد الأمر على تنمية الإدراك وحساسية العقل، فمن النائمين مَن يدرك في لحظة من اللحظات، أنه نائم بالفعل، وأن ما يراه ليس إلا حلمًا.
الحقائق يمكن التعامل معها بصورة أو أخرى، والأحلام يمكن التحكم فيها، أما ما يقع في منتصف الطريق؛ بحيث يتعذر تناوله وقياسه على أية منظومة منطقية، فربما يحتاج منا إلى ابتكار جديد، يحفظ عقولنا من التشتت ويقينا فقدان البصيرة، وينتشلنا من مصيدة الحمق والجنون.
نقلا عن الشروق القاهريه