بقلم : بسمة عبد العزيز
لا يأتى عيد إلا ويتذكر مَن لهم مِن الذكريات الرائقة نصيبٌ؛ طقسَ إعدادِ العجين، وضبطَ المَقادير، ورصَّ الصوانى، وحملَها إلى الفرن القريب، ثم رشَّ الكحكِ الشهيّ حال وصوله بوفرةٍ مِن السُكَّر، وطرقَ أبوابِ الجيران ببعضٍ مِنه.
***
للكحك أصولٌ ضاربة فى القِدم، فثمّة نقوشٌ على جُدران بعض المعابد المصرية، تصوّر امرأةً تحمل سلَّة بها كحك، ويُقال إنه كان يُوضع مع جثامين الموتى كزادٍ لرحلتهم الطويلة، وإنه اتخذ شكله المعروف بالاستدارة التامة؛ مُستلهَمًا مِن قُرص الشمس.
***
فى بعض المَعاجم العربية؛ الكعكُ هو الخُبز اليابس، وتذكُر هذه المَعاجم أن الكلمة أصلها فارسيّ، تم تعريبها واستخدامها، ودخلت أبياتِ الشعر فقال الليث: «حبذا الكَعك بلحمٌ مَثرود«، فى إشارة للأكلة الشائعة ذاك الوقت. يُقال أيضًا إن الكلمة تعود إلى «عك« بمعنى «عجن« ومنها جاء الكعكُ، ثم تحوَّل بمرور الوقت إلى كحك؛ ربما لتسهيل النُطق.
***
اعتدت عند مُمَارسة فعلِ الكتابة؛ أن أُطلِقَ كلمة «كعكة« على أشكال مُتنوعة مِن المخبوزات، أما «الكحكة« بحرف «الحاء« فغالبًا ما أحتفظ بها للقُرص الصغير، المستوى، المغطى بطبقة مِن السكَّر الأبيض الناعم، والمرتبط بالعيد دون سواه. أذكر أن الكحك فى طفولتى كان دومًا مُكللًا بالسكَّر؛ على سطحه سكَّر وأسفله سكَّر، وسكَّر يملأ أرجاء العلبة التى تحويه ويَفترش الصينيةَ التى تحمله، ويُغرى بالاغتراف مِنه والاستزادة. بمرور الوقت صارت علبُ الكحك أكثر حزمًا وتقتيرًا، فاختفى الرداءُ الأبيض وانزوى فى كيس بلاستيكى رقيق، وبقيت الكحكاتُ عاريةً صَلعاء، تنتظر ما يسترها.
***
المأكولُ مِن الكحك كُلٌّ بحسب مَصدره ومَكانته وثَمنه؛ بعضه يذوب فى الفمّ استحلابًا لا مَضغًا، وبعضه الآخر خشنٌ مُدرع، يتطلَّب مِن آكلِه صبرًا. مِنه ما أثقله الحشوُ الشهيّ وعزَّزه، ومِنه ما خفَّ وزنُه خواءً وفقرًا. اعتاد الناسُ أن يتهادوا بالكحك فى زيارات العيد، فصارت الهديةُ عزيزةً لا ينالها إلا عزيزٌ، وصارت الزيارةُ مِما يشُقُّ على الجيوب.
***
ليس الكحكُ كلُّه أبيض أو بلون العجين؛ فقد اكتسب فى العام الماضى لونًا أحمر، وتكالب على شراءه المُولَعون بكُل جديدٍ وغريب؛ وكتبت المحلاتُ التى عرضته كأحدث صيحة فى واجهاتها الزجاجية: «كحك ريد فيلفيت«. توارت الأقراصُ الحمراءُ هذا العام على ما أظن؛ فبعضُ الصيحات لا تجد لدى الناسِ صدى، خاصة والأوضاع لا تتحمَّل مثل هذا التجويد، والحالُ لا تتطلَّب مزيدًا مِن الاحمرار.
***
ثمَّة كعكٌ مَجازيٌّ لا مَلموس، مُستدير أيضًا على اختلاف حَجمه، لا يُوضَع فى الفم؛ لكن مذاقَه مُر وأحيانًا مُهين؛ الكعكةُ الحمراء فى الشهادة المدرسية على سبيل المثال؛ علامة الشرّ المُستطير، والعقوبة الصارمة الوشيكة، تظهر على ورقة امتحان؛ فتنذر بأيام مِن اللوم والتأنيب، وربما بالحرمان مِن ملذات كثيرة.
***
بعيدًا عن مصانع الحلويات والآلات؛ اكتسبت طقوسُ صناعة الكحك فى البيوت وما بينها وحولها، وما فى حكمها، معانى مُتعددة، لا ترتبط فقط بالتهادى والتزاور؛ بل بمفاهيم أكثر تنوعًا. فى مواقف بعينها تحولت هذه الطقوس إلى رمزٍ للاستمرارية والمُقاومة، وإلى دلالةِ ثباتٍ على الأرض.
***
الخَبزُ هو إعرابٌ عن القُدرة على الفَرح رغم الألم، ورغم سوء الظروف. الخَبزُ بقاءٌ؛ لذا يحرص عليه مَن تَتهدَّدهم عواملُ فناءٍ قاهرة. تتوافد صور عدة مِن غزة، حيث النساء جالسات على الأبسطة، فى مُواجهة الأوانى الضخمة والعجين؛ بعضُهن يعتمدن على صناعة الكحك المنزليّ لإعالة أسرهن، والبعضُ الآخر يتخذنه وسيلة لجَمع الشَمل، وشد الأزر بين أفراد العائلة المُمتدَّة، فى ظل أوضاعٍ عصيبة.
***
لا يُذكَر الكَعكُ وتُطرَح فكرةَ المُقاومة، إلا وقفزت إلى الذاكرة كعكة أمل دنقل: الكعكةُ الحجريةُ، الأكبر وسط الكعكات، والأشقّ والأثقل بين القصائد. يقول دنقل: «دقَّت الساعةُ القاسية.. كان مذياع مَقهى يذيع أحاديثَه البالية، عن دعاةِ الشغب.. وهم يستديرون.. يشتعلون.. على الكعكةِ الحجرية.. حول النُصب.. شمعدان الغضب يتوهج فى الليل، والصوت يكتسح العتمة الباقية.. يتغنى لليلة ميلاد مصر الجديدة«.
***
رغم أن الكَحكَ بات مُتوفرًا طيلة العام، تعرضه الأفرانُ ومتاجر الحلويات بمُناسبة وبغير مُناسبة؛ فإن المثل الشعبيّ الذى أصدقه يقول: «بعد العيد ما ينفتلش كحك«. ثمَّة أشياءً لا بد أن تجيء فى وقتها؛ إذ يجردها التأخير من قيمتها وأهميتها، ويتركها بالية، فيما الساعة القاسية لا تكُفُّ عن الدقّ.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع