توقيت القاهرة المحلي 05:25:13 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مَسَاطيل

  مصر اليوم -

مَسَاطيل

بقلم : بسمة عبد العزيز

 جرت العادة أن يُوصَف الشخص الذي يرتكب تصرفًا غير معقول، ينُم عن الغفلة وغياب العقل؛ بأنه "مسطول". المسطول قد ينسى مفتاح البيت في الباب، أو يتركه بالداخل ثم يغلق عليه ويمضي، أو يرتدي فردتيّ جورب مُختلفتين في لقاء ذي أهمية. يقوم المَسطول بأفعال قد لا يدركها جيدًا، ولا يعيها.
***
تابعت أصدقاءً كُثر يكتبون عن مواقف مضحكة يجوز فيها الوصف؛ مِنهم مَن ألقى بثمرات البطاطس إلى صفيحة القمامة واحتفظ بالقشر للطهي، ومنهم مَن علا صوت مُحدثه، فحاول أن يخفضه باستخدام جهاز التحكم عن بُعد. مِنهم أيضًا مَن حملت حقيبة ابنتها لتضعها في السيارة، ثم انطلقت في طريقها تملؤها الثقة، بينما البنت نفسها لا تزال واقفة على رصيف المدرسة؛ مَنسية. ثمّة فيديو شهير لامرأة مِن إحدى دول شرق أسيا، تقف أمام المَوقد وتطهو؛ تتذوق الطعام بعد أن تنفخه في المَغرفة لتخفف حرارته، ثم تضيف الملح إلى الإناء وتتذوق ما تبقى في المغرفة التي لا تزال بيدها، لكنها لا تجد فارقًا يُذكَر؛ فتزيد الملحَ وتتذوق مِن المغرفة مرة أخرى، ولا تدرك أن الملح الذي ترشه في الإناء لا تنال منه المغرفةُ شيئًا. عديد التعليقات يقول: مَسطولة.
***
كثيرنا يؤدي ما عليه بآلية، لا يفكر ولا يُعطي نفسه كُلّية لما يقوم به، ينشغل بأمور أخرى تحجب جزءًا مِن إدراكه؛ فيأتي بعض المرات بأفعالٍ عجيبة. أحيانًا ما يكون لهذه الأفعال تفسير مَنطقي، لكن هذا التفسير لا ينفي تشتت صاحبها، وعدم حضور ذهنه لحظة ارتكابها؛ الأمر الذي يُكسِبه عن جدارة لقب: "مسطول".

السَّطْل في اللغة العربية هو الطسيسَة الصغيرة، أما الفعل "سَطَلَ" فيعني خدر، والساطِل هو الفاعل، أما المَسطول فهو الأبله المُخدَّر، أي المفعول به الذي تعاطى مادة كالخمر مثلًا؛ ما فصار بها مسطولًا، وربما كانت الصلة بين المفردتين، نابعة مِن اعتياد تقديم الخمر في الأزمنة القديمة، داخل سطْل.
***
يشكو عدد مِن المعارف والأصدقاء؛ يقولون: نشعر كما لو كنا مساطيل. ارتخاء في العقل والجسد، ضعف في القدرة على الانتباه وتضاؤل التركيز، بطء وثِقَل وأخطاء مُدهشة لم نتصور أن نرتكبها في يوم من الأيام. البعض يضيف؛ تأخر في ردّ الفعل بغض النظر عن النتيجة، ورغبة مُلحَّة في الارتماء فوق أقرب سطح؛ مقعد أو أريكة أو حتى على الأرض. تثاؤب مستمر رغم النوم لساعات طوال، وصحو هو أشبه بالنوم.
***
ثمَّة أسبابٌ وعوامل متنوعة، تسهم في خلق هذا الشعور الغريب بالخدر. في الأسابيع القليلة الماضية، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن مصر قد انتقلت مِن المرتبة الثالثة في قائمة الأعلى تلوثًا؛ إلى المرتبة الثانية. أصدرت المُنظمة تقريرًا، حوى أسماء المدن التي ناء هواؤها بنسبة ملوثات شديدة الارتفاع ما بين عامي 2011 و2015. احتلت المراتب الثمانية الأولى خمسُ دول؛ هي على الترتيب؛ الهند ومصر وبنجلاديش ثم الصين وتركيا؛ لتكون نيودلهي على قمة القائمة، تليها في المركز الثاني عاصمتنا؛ القاهرة، التي يتسبب الاختناق المروري المرعب بشوارعها، وتراجع المساحات الخضراء بين مبانيها، في دفعها إلى هذه المَرتبة المُتقدمة، مُتفوقة على دول صناعية كبرى مثل الصين.
قال تقرير منظمة الصحة العالمية إن مئات الآف القتلى يسقطون جراء التلوث كل عام، هؤلاء لا يقطنون بجوار مصانع تخالف الشروطَ البيئية مثلًا، ولا يعيشون في مناطقٍ تشتهر بعمليات تصنيع غير صحيّة، بل هم فقط يسيرون عبر شوارع القاهرة، ويتنفسون هواءَها الذي نتنفسه جميعًا كل يوم.

***
نزهة قصيرة في شوارع العاصمة تصيب بالدوار، تجعل الأجفان ثقيلة والأعين دامعة؛ وكأن ذرات الغبار الضخمة قد علقت داخلها وجرحت أغشيتها، ثم استقرت بينها وأبت الخروج. يتوه العقلُ ويتشوش الوعي، ويصبح التركيز مُهمةً صعبة تحتاج إلى بذل جهد وافر، لكن الجهد يكاد يكون معدومًا، في ظل الإنهاك الذي يصيب الخلايا الغارقة بين ذرات ثاني أكسيد الكربون، المَسطولة بالعوادم والنفايات. مَن جرب السفر إلى بلد أقل تلوثًا، أدرك حجم المعاناة.
***
هناك عوامل تسبب الحالَ نفسها وتضاعِف منها، تتعلق بالأجواء أيضًا ودرجة نقاءها؛ لكنها تتجاوز ما يقتحم رئاتنا من غازات وانبعاثات ونواتج احتراق، إلى ما يقتحم وعينا من ملوثات كلامية.
ثمة كلمات تمارس دورًا أشد وطأة على الأدمغة مِن تلوث الهواء، ثمة تصريحات وأحاديث وخطابات، تضرب محاولات التيقظ والانتباه في مَقتل؛ نسمعها فيكتنفنا الدوار، ونتابعها فتصاب مراكز تفكيرنا بالشلل، ثم نشعر أننا قد صرنا حقًا مَسطولين، لا نعي ما يدور مِن حولنا.
***
سمعت أيضًا مَن يحاول إقناع الناس، بأن رفع الأسعار؛ هو قرارٌ مباشر من الرب، وأخيرًا تعثَّرت في إعلان الدجاج الوطنيّ، الذي يدعم الروحانية ويقوي إيمان آكليه.
الحقُّ أن ثمّة مشاهد لا يميز المرء فيها مَن الساطِل، ومَن المَسطول؟
***
الأزمة أن المسطول مُعطَّلُ الإدراك، غائبُ الإرادة، عاجزٌ في العادة عن الفعل، الأزمة أن التخلُّصَ مِن حال الخدر يتطلَّب الكَفَّ عن تناول المُخدِر، وأنّ المُخدِر تغلغل فينا حتى النخاع.

نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مَسَاطيل مَسَاطيل



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon