في نهاية الشهر الماضي، نشرت مجلة الإكونوميست البريطانية مقالة، حول اكتشاف جين مسئول عن انقسام الخلايا العصبية، ونمُو المُخ البشري؛ بما يساوي ثلاثة أضعاف حجمه تقريبًا في الكائنات الأخرى. بحسب كلام العلماء؛ بقي هذا الجين خاملًا لفترة زمنية غير معلومة، ثم نشط في لحظة ما؛ ليلعب دورًا محوريًا في تطوير أدمغتنا، وليؤذن بظهور الإنسان الحديث. لحظة بدء النشاط هذه لا تبدو قريبة بحال، فقد قُدِّرَت المسافةُ بينها وبيننا الآن بملايين السنوات.
العالمان اللذان اكتشفا هذا الجين؛ أحدهما مِن جامعة كاليفورنيا، والآخر مِن جامعة بروسل في بلجيكا، وقد توصلا كلاهما إلى نتائج مُتماثِلة تقريبًا؛ كلٌّ عبر سلسلة مِن الاختبارات المُتباينة، انتهت بالحصول على مَجموعة مِن البراهين الساطعة، والأدلة العلمية الرصينة.
التجارب المَعملية على الفئران أثبتت فاعلية الجين، كما وُجِدَ له أثر في الشيمبانزي والجوريللا؛ أي في القِردة العليا، دون أن يكون نشطًا، أما في المُخّ البشريّ فقد بدا نشطًا فاعلًا، بل وله أنواع ثلاثة، وقد أُجرِيَت فحوصاتٌ على أنسجة الأشخاص الذين وُلِدوا بعيوب خَلقية، ولم تكبر عظامُ جماجمهم وأمخاخُهم بالقدر الكافي؛ فثبت غيابُ هذا الجين.
تفترض بعض النظريات التي أوردتها اختصارًا مجلة الإكونوميست؛ أن كِبر حجم مُخّ الإنسان، هو ما يسمح له بالتلاعب بالآخرين واستغلالهم، بما يُميّزه عن سائر المخلوقات الأخرى؛ التي لا تملك أمخاخًا كبيرة، ولا تعرف التلاعبَ، والخداعَ، والاستغلال. السؤال المنطقيّ الذي يمكننا طرحه هنا؛ هو ما إذا كانت الحاجة إلى التلاعب هي التي حفزت نشوءَ الطفرة الجينية وتنامي حجم المُخّ، أم أن نمو المُخّ لأسباب أخرى –لا تزال مجهولة إلى الآن- هو الذي أتاح للإنسان مَهارات، ومَلَكات، لم تكُن مُتاحة له مِن قبل. على كل حال؛ ترى مقالة الإكونوميست أن نظرية الانتخاب الطبيعيّ ربما لعبت دورها في إحداث الطفرة، وأن تطوُّر الجين بتلك الطريقة المذهلة؛ كان مَطلوبًا لطبيعة الحياة البشرية، ومُفيدًا لتطورها.
قيل منذ قديم الزمان إن الجَبهةَ العريضةَ دليلُ ذكاء. لا أظُن القولَ بُنيَ على دراسات علمية دقيقة، لكنه قد يكون وليدَ الملاحظة؛ شأنه شأن مُلاحظات لا تُعَد ولا تُحصى، حَظَت بإثبات علميّ بعد عقود، أو ربما وجدت ما يؤيدها في قرون لاحقة.
***
في منتصف هذا الشهر تقريبًا؛ بثت قناة البي بي سي الإخبارية، مُحاورات مُطوَّلة عن الأخبار الزائفة التي تُصدرها الإدارةُ الأمريكية الحالية. تطرَّقت القناة إلى خطاب الرئيس ترامب الذي كان قد ألقاه للتوّ، مُحصِيةً عدد الكذبات التي أطلقها فيه؛ كانت الإحصائية مثيرة للدهشة: اثنان وعشرون كذبة خلال إحدى وخمسين دقيقة. بدا المتحاورون على شاشة القناة في ذهول؛ كيف يتمكَّن الرئيس مِن الكذب بهذه السرعة؟ ومِن أين يأتي بهذا الكَمَّ المهول مِن الكذبات؛ صغيرة وكبيرة؟ وكيف يتحايل على المبادئ الأخلاقية الراسخة، ويهزم التقاليد السياسية المُتعارَف عليها؛ دون أن يطرفَ له جفنٌ؟
أصابني الذهول أنا الأخرى، ولم يكُن مَبعثه مهارات الرئيس ترامب المُتفوقة؛ في اختلاق الوقائع، والإدلاء بتصريحاتٍ غير حقيقية، وبياناتٍ غير صحيحة. ذهلت في واقعِ الأمر لما أصاب المُحلِّلين والمُعلِّقين السياسيين مِن ذهول؛ هل يستدعي خطابُ الرئيس ترامب، المُتلاعب، هذا القدرَ مِن الدهشة؟ ألم يستمع أحدهم إلى حاكمٍ مِن حكام البلدان التي توقف نموها، يخطب مِن قبل؟!
خمسة أشخاص يتجادلون؛ يُعلِّقون ويُدقِّقون، وتعصف أذهانُهم بحيويةٍ وشغف، وبكثير مِن عدم التصديق؛ فأداء الرئيس خارجٌ عن كل ما هو مألوف لديهم.
خطرَ ببالي أن رأسَ الرئيس الأمريكيّ كبيرُ الحجم بمقتضى بنيانه الجسمانيّ الضخم، وربما تحوي جمجمتُه مُخًّا كبيرًا أيضًا، يكفُل له أن يتحايل ويخدع ويستغل الآخرين؛ ببساطة، وحنكة مُبهِرة سيحفظها له التاريخ؛ لكن العلاقة بين كِبر الرأس والقُدرة على التحايل ليست ثابتة حتمًا، فثمّة مَن يملكون رؤوسًا صغيرة وأجسامًا متواضعة، وفي الوقت ذاته لا يعدمون مَقدرة هائلة على الخداع والمُداهنة.
***
عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة؛ لا علاقة مباشرة، تربط ما جاءت به المجلةُ البريطانية، وما عرضت القناةُ الإخبارية. لا يتعدَّى الأمر مُقارنةً سريعة؛ عقدتها لا إراديًا، بين طبيعة ما يتم تناوله مِن موضوعات، في الولايات المتحدة او خارجها.
في عالم انتهت صلاحيته أو أوشكت على الانتهاء؛ يبتكر المواطنون أوهامًا –على الأصعدة كلها- فيصدقونها، أو يدَّعون تصديقها، لعلها تورثهم السكينة والهدوء، وفي عالم يختلف تمام الاختلاف؛ يتحرك مواطنون آخرون –على الأصعدة كلها أيضًا- سعيًا لتبديد الأوهام وكشف الحقائق، لعلها تهديهم فهمًا ومَعرفة.
أدمغةٌ كبيرة وأخرى صغيرة، أدمغةٌ عاطلةٌ عن العمل وأخرى مُتوَهِّجة. طيفٌ واسع مِن الأفعال والأهواءِ وفجواتٌ أوسع، أما العوامل المُؤثِّرة؛ فلا تنحصر قطعًا في الجينات.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع