بقلم - بسمة عبد العزيز
مرت على لقائى الأول بعمِ فتحى بضعة شهور، لكنها كانت كافية لعقد صداقة غير معلنة؛ عبر إيماءات وابتسامات، وتحيات تُلقى فى الجيئة والذهاب. عم فتحى كهلٌ داكن السُمرة، شاب مِنه الشعر وانحسر عن مقدمة الرأس، معتدل القوام، فيه بقايا شباب، ولمعة عينين السوداوين لم تنطفئ بعد. يجلس حارسا لبناية عادية، متوسطة الحال، يقارب عمرها عمره، ويقوم بمهمته حيالها خير قيام. لا يرتدى إلا الجلباب وعادة ما يُرجِع طاقيته إلى الخلف سنتيمترات قليلة، تُكسِبه أناقة وطلاوة.
***
عهِدته يتفَحَصُ الداخلين والخارجين بعين خبير، لا تفوته شاردة، ولا تعبر به ذبابة دون أن يعرف مَقصِدها. يفقد عمُ فتحى أعصابه مرات، حين يعانده زائر مَجهول الهوية؛ يريد دخول البناية بلا كلام ولا سلام، وعم فتحى يدرك أن واجبه يحتم الاستعلام والتمحيص، ولو اقتضى الأمر أن يستعمل ذراعيه دفاعا عن دوره فى حماية المكان وقاطنيه؛ لفعل، هذا إذا لم يأت بالنتيجة المرجوة؛ صوتُه الجهورى المتين.
***
قوانين عمِ فتحى الصارمة لا تسمح بتجاوزات، يضع رأسه برأس البهاوات والباشوات، ولا يهتم لفخامة سيارة أو بريق حذاء: الأُصولُ أُصولٌ، وعلى الناس أن تحترمها وتحترم وجوده. ظلَ غضبه بالنسبة لى مُحببا ومَشروعا، لكن ثورته على المُتجاوزين بدت بعض الأحيان عاصفة كاسحة، وربما غير مُبرَرة.
***
سمعته ذات يوم يخاطب ساكنا ليَن الطباع، والتقطت أذناى ما يثير الكدر ويسوء. اقتربت مِنه فى اليوم التالى، وقد انفرد بنفسه على مِقعده الأثير وسألت. حَدَق فى وجهى لحظات، ثم حسم أمره وجعل يحكى.
***
عرفت فى كلمات خرجت مِن فمه مُقتضَبة ثقيلة، أن له ابنا شابا؛ كان طالبا فى إحدى الكليات ولم يُمضِ بعد سنته الأولى، ثم إذا به مَسلوب الحرية، مُعتقلا بخطاب رسمي، مُتهما بالانضمام إلى مجموعة من المجموعات، تستهدف تعطيل الأحكام والقوانين. شعرت بالسخف وأنا أسأله إذا كان للشاب نشاط ما؛ يجعله فى دائرة الخطر، وتفاقم ضيقى وخجلى وهو ينفى، ويؤكد النفى، ويُقسِم بما خطر على باله من أشياء، أن الولدَ برىءٌ. لم يكن سؤالى جادا ولا أردت إجابة، إنما كان الفضول، وكانت الرغبة فى حماية نفسى مِن وجع أبصرته وشيكا.
***
يحمل عم فتحى أوراقا مَنسوخة، مشدودة إلى بعضها بمشبك وحيد، منها ما توجه إلى النائب العام، وإلى مجلس الشعب وبعض النواب، وإلى وزيرى العدل والداخلية، وكذلك إلى رئاسة الجمهورية، وقد طرق أيضا أبواب بعض مُنظمات حقوق الإنسان. فى الأوراق شكوى، تفيد بحبس الشاب منذ ما يناهز العام. عامٌ كامل ضاع مِن عمره الغض، ونقص مِن حياة أبيه؛ ليضيف إلى كاهله حمولا لا تضاهيها حمول.
***
لا أدرى على وجه التحديد، إن كان تحفُز عم فتحى مُنبَتَ الصِلة بهَمِه المرير. لا أدرى إن كانت استثارته السهلة السريعة، مجرد خصلة مِن خصاله الأصيلة؛ لكنى لا أتوقع مِمَن فى مثل حاله، حلما وصبرا وكياسة. لا أنتظر مِمَن فقد ابنا فى سجن، أن يكون لطيف المعشر، مرن الطباع.
***
فى المحيط مئات وربما الآف مثل عم فتحي؛ افتقدوا واحدا أو أكثر مِن ذويهم بغير مُحاكمة، فالحبس الاحتياطى المُمتد بلا نهاية، صار سيفا مُسلطا على الرقاب، يلوح به حامله فيصيب مَن يصيب، بلا ترو ولا تمييز. على كل حال؛ لا تفعل الضربات العشوائية، والقيود السالبة للحريات غير المحكومة بضوابط؛ إلا أن تضع الظهور إلى الحوائط، وتُقَوِض ما بقى مِن مشاعر الأمان والاطمئنان، وفى ظل القهر والعجز الذى يطال عامة الناس، تبدو المعادلة صفرية، ويلوح الأفق مَسدودا كئيبا.
***
منذ أسابيع مررت بعم فتحى مُحيية؛ فبادرنى بصيحة وتلويحة ذراع لم أعتدهما مِن قبل. هاشا وجزلا قال؛ إن الولد قد أُخلِيَ سبيله أخيرا. راضيا؛ أو هكذا بدا، راح يسرد تفاصيل الجلسة ومنطوق الحكم، حتى وصل إلى لحظات إنهاء الأوراق التى استغرقت أياما، قبل أن يصل الولد إلى البيت. قال إن التأخير عاديٌ؛ ضربوه أولا ”علقة“ قبل أن يسمحوا له بالخروج. كان يضحك مبتهجا ربما؛ وفى طرف عينيه مياه، لم تسقُط فى حضورى.
نقلا عن الشروق القاهرية