توقيت القاهرة المحلي 05:32:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عن التوبيخ

  مصر اليوم -

عن التوبيخ

بقلم - بسمة عبد العزيز

مَن مِننا لم يتلق ذات يوم زجرًا وتوبيخًا، على فعلةِ سوءٍ ارتكبها غفلة أو عمدًا؛ فأفسد بها أمرًا وأخطأ حكمًا؟ لا أظن أحدنا قد عَدِم موقفًا استقبل فيه سيلًا مِن التوبيخ؛ احمرَّت له أذناه حتى تمنَّى أن يختفى مِن على وجه الأرض. التوبيخ فى لسانِ العرب هو التأنيب واللَّوم، ووَبَّخَ الرجلَ أى لامه وعذله، ويقال وُبَّخت فلانًا بسوء صنيعه.
هناك الكثير مما يُمكن أن يُقال عن التوبيخ، سياسةً واجتماعًا ونفسًا. هو فعلٌ يمارسه الأفراد فى علاقاتهم الشخصية؛ ربما دون تحفظات، وتمارسه المجتمعاتُ عبر العلاقات السلطوية فى منظومة مُعقَّدة مِن الحسابات. على المستوى الفرديّ؛ ينبع التوبيخ مِن مشاعر تبدو فى مُجمَلها سلبية؛ الاستياء والغيظ على سبيل المثال، وربما الغضب والضيق أيضًا، ولا تُشارك فى صناعة التوبيخ مَشاعرٌ إيجابية كالفرح أو الرضاء، فالراضون لا يلومون ولا يُوَبِّخون.

***

أغرب مَوقف تلقيت فيه توبيخًا مُباشرًا ومُبهرًا، كانت بطلته سيدةُ خمسينية تبيع الباذنجان. اقتربت منى فى إحدى الأسواق المعروفة، تحمل فوق رأسها طبقًا مِن الخوص به عبوات مُستطيلة مُغلَّفة بعناية، وتسألنى أن أشترى منها. شكرتها بغير اهتمام؛ فإذا بها تُنزِل الطبقَ عن رأسها وتنهال على توبيخًا: «يعنى أنا أقوم من الصبح بدرى، أنضف وأقور وأعبى، وبعدين تيجى انتِ تقولى لى شكرًا؟!«. لجمت لسانى المفاجأة؛ لم أتخيل أبدًا أننى قد أتلقى منها ردَّ فعلٍ هُجوميّ مثل هذا، فيه مِن التلقائية والعفوية ما يُسكِت ويكفى ويفيض، ولا يستغرق سوى ثوان معدودات.

***

التوبيخ فعلٌ مُزعجٌ لمَن يقع عليه، شافٍ لغليل مَن يقوم به؛ خاصة إذا لم يكُن فى استطاعته القيام بفعلٍ آخر. تُوَبِّخ الأمُ أطفالَها على ما قد تُعِده قِلة تهذيب، أو ما تراه تقصيرًا فى الدراسة وإهمالًا للدروس، أو شقاوة تفوق الحدودَ، تريد أن تجعل مِنهم الأفضل والأذكى والأمهر؛ أن يتفوقوا على بقية أطفال العائلة والأصحاب والجيران، وأن تُباهى بهم الآخرين. تُوَبِّخ وتنتقد وتلوم، وأحيانًا ما تتمادى، وتنسى أن كثرة التقريع قد لا تستجلب فى النهاية إلا عنادًا، وقد لا تدفع إلا إلى تجاهُلٍ وبلادة.
يُوَبِّخ المدير مُوظفيه، والقائد مَرئوسيه، يُستَخدَم الفعلُ هنا مجازًا، لكنه أيضًا يُوَصِّف عقوبة قانونية مَفادها؛ إخطار الشخصِ المَقصودِ كتابة بمُخالَفة وقع فيها، وجعلت سلوكه غير مُرضٍ للرؤساء. قد يصحب هذا التوبيخ أو يليه عقابٌ جَسيم؛ خصم أو نقل أو ربما حرمان مِن ترقية ومكافأة. فى بعض الأحيان يتطور الأمر إلى إقالة، أو استقالة إجبارية، وفى أحيان أخرى يُسفِر عن انسحاب طَوعيّ للمُخطئ؛ قائمٍ على إحساسه الأصيل بالمسئولية؛ وتلك نادرة، قلَّما تُرى فى مُجتمعات تتوارى ضمائر أفرادها أسفل ركام الفساد.

***

فى بعض المُجتمعات يشعر المَلوم بإهانة شديدة، تدفعه دفعًا إلى طلب الصفح والمغفرة، أو على الأقل تحثّه على توضيح موقفه والدفاع عن نفسه، وفى مُجتمعات أخرى؛ يُقابَل اللومُ والتوبيخُ بالتجاهُل مرات، وفى مرات أُخرى بردٍ صَفيق، لا حياء فيه ولا خجل، لا اعتراف بخطأٍ ولا إبداء لندم، والأمثلة كثيرة لا أول لها ولا آخر.

***
الهدف الافتراضى النبيل مِن التوبيخ، هو دفع المخطئ إلى بذل جهد أعظم، إلى تحقيق تقدُّم ما؛ تصحيح مسار أو تقويم مسلك؛ سواء على الصعيد المادى أو المعنوى، هو أداة لإحاطة المرءِ بزلَّته، ووسيلة للوقاية مِن تكرار السقطات. فى غياب المقاصد النبيلة والنوايا الحسنة، قد يغدو التوبيخُ مَهربًا وجيهًا؛ يُمارَس حفظًا لماء الوجه، وإعفاءً مِن الحرج، وتنصُّلًا مِن المسئولية، فيما لا يكون فاعله بريئًا. يخرج بعض المسئولين مِن مواقف عصيبة، عبر توجيه أصابع اللوم والتأنيب إلى آخرين؛ يحتلون الموقع الأدنى فى سُلم القوة والسُلطة.

على كل حال ليست القاعدة أبدًا؛ أن يأتى التوبيخ من أعلى إلى أسفل؛ فجميعنا يُمارس هذا الحَقَّ، ما سمحت الظروف واستدعت المواقف، وما أَمِن العواقبَ أو حتى توقعها ولم يأبه لها. قد يكون مُصيبًا أو لا يكون، قد يؤنِّب مَن هو أرفع مِنه منصبًا أو مَن يدنوه منزلة، عوامل شتى تحكم المسألة، وتحفظ لها قدرًا مِن المرونة.

***

لم أتخيل أننى سأتلقى هذا السخطَ الشديدَ مِن بائعة الباذنجان؛ كونى لن أبتاع منها، ما قُدِّرَ له أن يصير على مائدة الطعام «حلة محشي«؛ حلة المحشى فى حقيقة الأمر لا تمثل لى إغراءً كبيرًا، لكنها فى عرفها ذات مكانة وقيمة؛ جزءٌ مِن كدِّها وكدحِها اللذين يستحقان التقدير. أشعرتنى عبارتها بالذنب، وبأن عليّ تقديم اعتذار صادق عن سوء سلوكى، ورعونتى، وتجاهُلى ما بذلت مِن جهد، وما عانت مِن صعوبات. تصورت مُطاردات الحيّ، وسخافات مُصادرة بضاعتها البسيطة بين يوم وآخر، ومَشقَّة الطريق الذى تقطعه قادمة مِن خارج العاصمة أو مِن هوامشها وأطرافها، ونظرت إلى كفَّيها وأصابعها المُتشَقِّقة المُتَكَلِّسة، ثم هَمَمت باسترضائها؛ لكنى تأخرت لحظات، كانت قد حملت خلالها الطبق، ومَضت.


نقلا عن الشروق القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن التوبيخ عن التوبيخ



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon