توقيت القاهرة المحلي 10:32:52 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عن التوبيخ

  مصر اليوم -

عن التوبيخ

بقلم - بسمة عبد العزيز

مَن مِننا لم يتلق ذات يوم زجرًا وتوبيخًا، على فعلةِ سوءٍ ارتكبها غفلة أو عمدًا؛ فأفسد بها أمرًا وأخطأ حكمًا؟ لا أظن أحدنا قد عَدِم موقفًا استقبل فيه سيلًا مِن التوبيخ؛ احمرَّت له أذناه حتى تمنَّى أن يختفى مِن على وجه الأرض. التوبيخ فى لسانِ العرب هو التأنيب واللَّوم، ووَبَّخَ الرجلَ أى لامه وعذله، ويقال وُبَّخت فلانًا بسوء صنيعه.
هناك الكثير مما يُمكن أن يُقال عن التوبيخ، سياسةً واجتماعًا ونفسًا. هو فعلٌ يمارسه الأفراد فى علاقاتهم الشخصية؛ ربما دون تحفظات، وتمارسه المجتمعاتُ عبر العلاقات السلطوية فى منظومة مُعقَّدة مِن الحسابات. على المستوى الفرديّ؛ ينبع التوبيخ مِن مشاعر تبدو فى مُجمَلها سلبية؛ الاستياء والغيظ على سبيل المثال، وربما الغضب والضيق أيضًا، ولا تُشارك فى صناعة التوبيخ مَشاعرٌ إيجابية كالفرح أو الرضاء، فالراضون لا يلومون ولا يُوَبِّخون.

***

أغرب مَوقف تلقيت فيه توبيخًا مُباشرًا ومُبهرًا، كانت بطلته سيدةُ خمسينية تبيع الباذنجان. اقتربت منى فى إحدى الأسواق المعروفة، تحمل فوق رأسها طبقًا مِن الخوص به عبوات مُستطيلة مُغلَّفة بعناية، وتسألنى أن أشترى منها. شكرتها بغير اهتمام؛ فإذا بها تُنزِل الطبقَ عن رأسها وتنهال على توبيخًا: «يعنى أنا أقوم من الصبح بدرى، أنضف وأقور وأعبى، وبعدين تيجى انتِ تقولى لى شكرًا؟!«. لجمت لسانى المفاجأة؛ لم أتخيل أبدًا أننى قد أتلقى منها ردَّ فعلٍ هُجوميّ مثل هذا، فيه مِن التلقائية والعفوية ما يُسكِت ويكفى ويفيض، ولا يستغرق سوى ثوان معدودات.

***

التوبيخ فعلٌ مُزعجٌ لمَن يقع عليه، شافٍ لغليل مَن يقوم به؛ خاصة إذا لم يكُن فى استطاعته القيام بفعلٍ آخر. تُوَبِّخ الأمُ أطفالَها على ما قد تُعِده قِلة تهذيب، أو ما تراه تقصيرًا فى الدراسة وإهمالًا للدروس، أو شقاوة تفوق الحدودَ، تريد أن تجعل مِنهم الأفضل والأذكى والأمهر؛ أن يتفوقوا على بقية أطفال العائلة والأصحاب والجيران، وأن تُباهى بهم الآخرين. تُوَبِّخ وتنتقد وتلوم، وأحيانًا ما تتمادى، وتنسى أن كثرة التقريع قد لا تستجلب فى النهاية إلا عنادًا، وقد لا تدفع إلا إلى تجاهُلٍ وبلادة.
يُوَبِّخ المدير مُوظفيه، والقائد مَرئوسيه، يُستَخدَم الفعلُ هنا مجازًا، لكنه أيضًا يُوَصِّف عقوبة قانونية مَفادها؛ إخطار الشخصِ المَقصودِ كتابة بمُخالَفة وقع فيها، وجعلت سلوكه غير مُرضٍ للرؤساء. قد يصحب هذا التوبيخ أو يليه عقابٌ جَسيم؛ خصم أو نقل أو ربما حرمان مِن ترقية ومكافأة. فى بعض الأحيان يتطور الأمر إلى إقالة، أو استقالة إجبارية، وفى أحيان أخرى يُسفِر عن انسحاب طَوعيّ للمُخطئ؛ قائمٍ على إحساسه الأصيل بالمسئولية؛ وتلك نادرة، قلَّما تُرى فى مُجتمعات تتوارى ضمائر أفرادها أسفل ركام الفساد.

***

فى بعض المُجتمعات يشعر المَلوم بإهانة شديدة، تدفعه دفعًا إلى طلب الصفح والمغفرة، أو على الأقل تحثّه على توضيح موقفه والدفاع عن نفسه، وفى مُجتمعات أخرى؛ يُقابَل اللومُ والتوبيخُ بالتجاهُل مرات، وفى مرات أُخرى بردٍ صَفيق، لا حياء فيه ولا خجل، لا اعتراف بخطأٍ ولا إبداء لندم، والأمثلة كثيرة لا أول لها ولا آخر.

***
الهدف الافتراضى النبيل مِن التوبيخ، هو دفع المخطئ إلى بذل جهد أعظم، إلى تحقيق تقدُّم ما؛ تصحيح مسار أو تقويم مسلك؛ سواء على الصعيد المادى أو المعنوى، هو أداة لإحاطة المرءِ بزلَّته، ووسيلة للوقاية مِن تكرار السقطات. فى غياب المقاصد النبيلة والنوايا الحسنة، قد يغدو التوبيخُ مَهربًا وجيهًا؛ يُمارَس حفظًا لماء الوجه، وإعفاءً مِن الحرج، وتنصُّلًا مِن المسئولية، فيما لا يكون فاعله بريئًا. يخرج بعض المسئولين مِن مواقف عصيبة، عبر توجيه أصابع اللوم والتأنيب إلى آخرين؛ يحتلون الموقع الأدنى فى سُلم القوة والسُلطة.

على كل حال ليست القاعدة أبدًا؛ أن يأتى التوبيخ من أعلى إلى أسفل؛ فجميعنا يُمارس هذا الحَقَّ، ما سمحت الظروف واستدعت المواقف، وما أَمِن العواقبَ أو حتى توقعها ولم يأبه لها. قد يكون مُصيبًا أو لا يكون، قد يؤنِّب مَن هو أرفع مِنه منصبًا أو مَن يدنوه منزلة، عوامل شتى تحكم المسألة، وتحفظ لها قدرًا مِن المرونة.

***

لم أتخيل أننى سأتلقى هذا السخطَ الشديدَ مِن بائعة الباذنجان؛ كونى لن أبتاع منها، ما قُدِّرَ له أن يصير على مائدة الطعام «حلة محشي«؛ حلة المحشى فى حقيقة الأمر لا تمثل لى إغراءً كبيرًا، لكنها فى عرفها ذات مكانة وقيمة؛ جزءٌ مِن كدِّها وكدحِها اللذين يستحقان التقدير. أشعرتنى عبارتها بالذنب، وبأن عليّ تقديم اعتذار صادق عن سوء سلوكى، ورعونتى، وتجاهُلى ما بذلت مِن جهد، وما عانت مِن صعوبات. تصورت مُطاردات الحيّ، وسخافات مُصادرة بضاعتها البسيطة بين يوم وآخر، ومَشقَّة الطريق الذى تقطعه قادمة مِن خارج العاصمة أو مِن هوامشها وأطرافها، ونظرت إلى كفَّيها وأصابعها المُتشَقِّقة المُتَكَلِّسة، ثم هَمَمت باسترضائها؛ لكنى تأخرت لحظات، كانت قد حملت خلالها الطبق، ومَضت.


نقلا عن الشروق القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن التوبيخ عن التوبيخ



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:42 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة
  مصر اليوم - أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة

GMT 10:08 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد
  مصر اليوم - وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد

GMT 09:50 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل
  مصر اليوم - نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل

GMT 00:01 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

"لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا"
  مصر اليوم - لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا

GMT 14:55 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 07:29 2020 الأربعاء ,17 حزيران / يونيو

ارمينيا بيليفيلد يصعد إلى الدوري الألماني

GMT 13:03 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

"فولكس فاغن" تستعرض تفاصيل سيارتها الجديدة "بولو 6 "

GMT 18:07 2017 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الإيطالي يتأهب لاستغلال الفرصة الأخيرة

GMT 07:24 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب

GMT 22:13 2024 الجمعة ,07 حزيران / يونيو

بسبب خلل كيا تستدعي أكثر من 462 ألف سيارة

GMT 00:02 2023 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات فولكس فاغن تتجاوز نصف مليون سيارة في 2022

GMT 08:36 2021 الخميس ,07 تشرين الأول / أكتوبر

أيتن عامر تحذر من المسلسل الكوري «squid games»

GMT 20:44 2021 الأربعاء ,15 أيلول / سبتمبر

شيرين رضا تتعرض للخيانة الزوجية من صديقتها المقربة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon